الجمعة، 11 سبتمبر 2009

4-5: العولمة Globalization

* الأبعاد الاقتصادية لظاهرة العولمة :
إن البعد الاقتصادي لظاهرة العولمة يمثل البعد الواقعي مقارنةً بالبعدين السياسي والثقاقي ، فقد همين الطابع الاقتصادي على ظاهرة العولمة فطغى على أبعادها الأخرى ، وتتمثل الأبعاد الاقتصادية للعولمة في مجموعة من المستجدات أو التطورات التي برزت بشكل واضح خلال العقد الأخير من القرن العشرين والتي طرأت على أنماط التفاعلات الاقتصادية الدولية شكلاً ومضموناً ، وأبرز هذه الأبعاد :
1. تراجع قدرة الحكومات الوطنية على توجيه الأنشطة الاقتصادية أو السيطرة عليها: وبالتالي انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الوطني إلى العالمي ، أي من الدولة إلى القوى عبر القومية أو المؤسسات العالمية أي " عولمة الاقتصاد " ليس " تدويل الاقتصاد " . ويرى ثامبسون Thampson أن تدويل الاقتصاد يشير إلى : " تداخل الاقتصاديات القومية بحيث يكون الاقتصاد الدولي اقتصاداً كلياً تتمثل وحداته الرئيسية في اقتصاديات قومية أو مؤسسات وطنية تتقيد بأقاليم معينة على الرغم من وجود اعتماد متبادل بين هذه الكيانات الإقليمية .
أما عولمة الاقتصاد مايعرف بالاقتصاد المعولم Globalized Economy يشير إلى " حودث تغير هيكلي في بنية الرأسمالية العالمية ، وأن الكيان الرئيسي هو الاقتصاد الكوني ، أي أن العلاقات والتفاعلات الاقتصادية لم تعد نابعة من أساس قومي ، وبالتالي فان الاقتصاد الكوني هو من يحدد ويفرض الممكن وغير الممكن على المستوى القومي (18).
2. تزايد سطوة المؤسسات والمنظمات الاقتصادية العالمية في مجال فرض النظم الاقتصادية الدولية : إن من أبرز مظاهر العولمة تزايد النزعة نحو الحكم على المستوى العالمي في المجال الاقتصادي ، ووضع معايير للتفاعلات الاقتصادية من خلال المنظمات الدولية " كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، حيث أصبح هذا الثالوث بمثابة آلية التحكم والتوجيه للاقتصاد العالمي ، ولعل ما يدلل على ذلك ما أعلنه مدير WTO بتصريح له : " إننا نكتب دستور اقتصاد عالمي واحد " (19).
وينص ميثاق منظمة WTO على : " أن يكفل كل عضو توافق قوانينه ولوائحه وإجراءاته الإدارية مع التزاماته تجاه المنظمة " ، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها مؤسسة دولية سلطة تجاوز المصالح القومية لأعضائها والتضحية بها ، كما تملك المنظمة سلطة توقيع العقوبات بصورة آلية على أي طرف تدينه لجان الخبراء ما لم تصوت الدول الأعضاء بالإجماع ضد هذه العقوبات خلال 90 يوماً .
أما منظمة المعايير العالمية ISO فهي تضع معايير الجودة في نشاط الإنتاج ، والتي يتعين توافرها في المنتج ذاته أو في العملية الإنتاجية وما يتصل بمقتضيات الحفاظ على البيئة ، وهي معايير تضعها القوى المهيمنة على تشريعات التجارة العالمية في وجه الاقتصاديات النامية لحرمانها من المزايا النسبية التي تتمتع بها كوفرة الموارد أو رخص الأيدي العاملة ، وذلك لتحميلها أعباء تكاليف إضافية لتحطيم قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية .
3. تنامي الاتجاه نحو التخصص وتقسيم العمل على المستوى العالمي في ظل عولمة الإنتاج: إن هذا النمط من التخصص وتقسيم العمل الدولي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة معدلات التراكم الرأسمالي في دول الشمال المتقدم . وهو ما ينذر باتساع الفجوة بين دول الشمال والجنوب ، فالعولمة تهدف إلى نقل الإنتاج الرأسمالي إلى مجتمعات الأطراف "الهامش" بعد أن كانت حكراً على مجتمعات المركز (20).
4.تزايد سطوة الشركات المتعددة الجنسيات وهيمنتها على الاقتصاد العالمي : تشير الإحصائيات أنه مابين 200 من القوى الاقتصادية الكبيرة بالعالم هناك نحو 160 منها من الشركات العابرة للقومية ، وأربعين فقط من حكومات الدول القومية ، وتنامي قوة هذه الشركات أضعف من مواجهة قوة دول الجنوب لها التي باتت تمثل فريسة لهذه الإمبراطوريات الاقتصادية العملاقة وتمثل الاستغلال بالآتي :
· استخراج الخامات والموارد الطبيعية ومصادر الطاقة بأسعار متدنية : من الدول النامية استجابة لتطلعات ومصالح وأطماع القوى الكبرى . وهو ما يتعارض مع مفهوم التنمية المستدامة في هذه الدول .
· استغلال العمالة المحلية الرخيصة الجر : في ظل غياب تنظيمات عمالية قوية بالدول النامية .
· توفير معظم الاستثمارات المطلوبة من مصادر محلية : فضلاً عن مصادر التمويل الأجنبي لشراء الآلات والمعدات .
· الاستحواذ على نسبة كبيرة من القروض : والمقدمة من قبل المؤسسات المالية والدول المانحة ، مع زيادة فوائد ديون العالم النامي .
· الاعتماد على خبرة الدول الصناعية التكنولوجية: وعدم إتاحة المجال أمام دول الجنوب لبناء قاعدة علمية أو تكنولوجية خاصة بها .
· التحايل والتهرب الضريبي : وذلك على السلطات الضريبية في دول الجنوب بعدم إظهار الأرقام الحقيقية للأرباح المحققة .
· عدم الالتزام بمعايير الأمان في المصانع : و المقامة في دول الجنوب مما قد يعرض العمالة والبيئة في هذه الدول لمخاطر كبيرة ، كما حدث في مصنع يونيون كاربايد في بوبال بالهند عام 1984 .
· لجوء هذه الشركات إلى أساليب غير مشروعة : كالرشوة واستغلال مظاهر الفساد السياسي المنتشر بالدول النامية تحقيقاً لمصالحها حتى ولو على حساب الإضرار باقتصاديات دول الجنوب ومصالحها الوطنية .
· تكوين اتحادات منتجين Cartels غير رسمية : وذلك بين الشركات العالمية للحد من المنافسة فيما بينها حول الأسواق العالمية . ونشأة الاحتكارات الدولية .
· هوس الاندماج Mergermania : وهي " اندماج الشركات العملاقة مع بعضها أو العمل على شراء الشركات المنافسة لها ، بدافع تحجيم المنافسة وزيادة الكفاءة الاقتصادية ، والاستفادة من مزايا التكامل ، وكذلك اقتسام الأسواق ، مما أدى إلى ظاهرة التركز Concentration حيث سيطرت حفنة قليله من الشركات العملاقة الناشئة عن هذه الاندماجات على قطاعات إنتاجية أو خدمية بأكملها .
مثال : شركات أمريكان أكسبرس وماستر كارد وفيزا تدير فيما بينها حوالي 95% من حجم المعاملات العالمي عن طريق بطاقات الائتمان (21).
5. تزايد درجة الاعتماد الاقتصادي المتبادل على المستوى العالمي : كان من شأن النمو الهائل للتفاعلات الاقتصادية الدولية والتشابك المعقد بين مصالح قوى الرأسمالية العالمية . ان غدا الاقتصاد العالمي موحداً ومترابط الأركان بحيث لم يعد من الممكن لأي اقتصاد قومي أن يعمل بمعزل عن المؤثرات العالمية . وهذا يظهر بشكل جلي في مجال الأسواق المالية والنقدية .
6. سيادة الفكر الاقتصادي الليبرالي على النظام الاقتصادي العالمي : وذلك لسقوط مصداقية الفكر الاقتصادي الماركسي في الاتحاد السوفييتي السابق وفي دول شرق أوروبا وفي العديد من دول الجنوب ، وهو ما أتاح دمج اقتصاديات هذه الدول في منظومة النظام الرأسمالي العالمي ، والقضاء على الثنائية الأيدلوجية . وذلك منذ مطلع التسعينات بالتحول إلى نظام آليات السوق بدل أساليب التخطيط المركزي وتقليص التدخل الحكومي من خلال عمليات "الخصخصة" ، ولاتي لها اعتبارات وضوابط إن لم تتبع ستضر الأمن القومي للدولة .
7. تزايد الاعتماد على التكنولوجيا الفائقة وتراجع الحاجة إلى العمالة البشرية : فضلاً عن محاولة استخدام العمالة الأرخص أجراً . فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد دفعت شركة (فولكس فاجن) الألمانية شعار " سيارات أكثر " و " عمل بشري أقل " بشكل يرفع أرباح المساهمين خمسة أضعاف . وكذلك ألغت الصناعات الحربية الأمريكية بعد الحرب الباردة نصف مليون فرصة عمل ، وبريطانيا بتطبيقها الخصخصة 113000 فرصة عمل ، وفرنسا 1.800000 فرصة عمل (22).
وكذلك اتجاه شركات IBM – Hewlett – Motorola إلى استخدام خبراء وفنيين من الدول الآسيوية " كالهند و الصين " ، وأحياناً تستأجر طائرات لنقل هؤلاء من موطنهم الأصلي .
8.توحش النزعة الاستهلاكية والترويج لثقافة المستهلك العالمي : و يقوم على أساس السعي المحموم للحصول على تشكيله من السلع التي سرعان ما يزهدها المستهلك عادةً، ومن ثم ينبذها بحيث تحقق الإشباع اللحظي. وهي ترتبط بإشباع الحاجات العارضة غير الضرورية ذات الطابع الترفي والتفاخري كالأزياء العالمية أو سلع ذات علامات تجارية مرموقة . فالنزعة الاستهلاكية تحرص على خلق أو إذكاء الحاجة لدى المستهلك بذات القدر من الحرص على إشباعها . وتلعب الدعاية والإعلان دوراً رئيسياً بذلك(23) .
* الأبعاد الثقافية لظاهرة العولمة : الثقافة هي " مجموعة القيم التي تعتنقها جماعة ما ، وتنصاع لها في اختياراتها وفي أسلوب معيشتها وهي عنصراً محدداً ورئيسياً من العناصر الموجهة للسلوك الإنساني بوجه عام ، وهكذا فان السعي إلى التأثير في سلوك الأفراد والجماعات قد يستلزم التأثر في عقولهم وإراداتهم ، أي في ثقافتهم . ومن هنا قد حرص الداعون إلى العولمة والمدافعون عنها على الترويج لمجموعة مترابطة من القيم وبثها على المستوى العالمي بهدف التمكين لسياسات العولمة ، وتهيئة المجتمعات لتقبلها .
والعولمة الثقافية قد تمثلت في المظاهر التالية :
1. التمكين للنزعة المادية على حساب النزعة الروحية :
بحيث يولي الإنسان في عصر العولمة وجهة شطر الماديات ، وينأى عن الاعتبارات القيمية ، حيث اتجهت آليات العولمة الثقافية " كالسينما و القنوات الفضائية الموجهة " نحو التسطيح الثقافي والتجهيل والتركيز على مواد الترفيه الخالية من أي مضمون قيمي أو معنوي ، بحيث لا تثير الفكر أو التأمل لدى المشاهد . بل تركز على إثارة الغرائز ومخاطبة المشاعر بحيث لا تخلف وراءها أي أثر تثقيفي حقيقي .
2. محو الخصوصية الثقافية والترويج لفكرة الثقافة العالمية :
فهدف العولمة إزالة الحدود الفاصلة بين المجتمعات والقضاء على فكرة محلية والإقليمية ، وبالتالي ثقافياً تهدف لمحو الهوية الثقافية لمجتمعات الأطراف وطمسها . فالهوية الثقافية لأي مجتمع إنما تتمثل أساساً في ذلك الشعور بالانتماء والولاء لنسق قيمي معين . ويتواكب محو الهوية الثقافية الترويج للثقافة العالمية على اعتبار أن ثمة مشتركاً إنسانيا عاماً بين البشر عالمياً ، وأخذ بالاتساع بعامل الاحتكاك والتفاعل والاتصال الإنساني ، وهو ما ينبئ إلى قرب التوصل إلى ثقافة عالمية موحدة ، والترويج إلى ثقافة الصورة Image والتي لاتحتاج للمصاحبة اللغوية لإدراكها ، مما صاحب ذلك تراجعاً شديداً لمعدلات القراءة وانحدار ثقافة الكلمة (24).
3. التمكين لسيادة القيم الغربية والأمريكية ولنمط الحياة الأمريكية :
وذلك من خلال هيمنة الثقافة الغربية بوجه عام والثقافة الأمريكية بشكل خاص ، لعدة عوامل :
أ‌- السيطرة الغربية والأمريكية على تكنولوجيا الإعلام والاتصال ونقل المعلومات .
ب‌- السيطرة على إنتاج المادة الإعلامية : والثقافية والصحافة والسينما وعالم الكمبيوتر وشركات البث الفضائي التلفزيوني والترفيهي للأطفال والوكالات الإخبارية .
ت‌- الهيمنة على عمليات التسويق العالمي : من قبل شركات الإعلان الأمريكية والقدرة على تشكيل أذواق واتجاهات ورغبات المستهلكين أو المتلقين .
ث‌- قوة الاقتصاد الأمريكي : مما دفع للإنتاج الثقافي من خلال السينما والموسيقى والتلفزيون .
ج‌- المكانة المرموقة للمؤسسات البحثية والتعليمية الجامعية الأمريكية : من خلال النجاحات البارزة في مجالات الإبداع والتطوير العلمي والتكنولوجي . مما جعلها قبلة النخب المثقفة في جميع دول العالم ، بالتالي التأثر بالمجتمع الأمريكي .
ح‌- اللغة الانجليزية ذات اللهجة الأمريكية باتت تشكل لغة عالمية : وذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، مما هيأ للثقافة الأمريكية بالانتشار .
خ‌- انتصار المعسكر الليبرالي على المعسكر الماركسي : بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ، مما جعلها محط إعجاب أبناء دول الجنوب باعتبارها تمثل النموذج الأمثل للتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، مما جعل القيم الأمريكية تلقى قبولاً عاماً . وانحسار هذه القبول والإعجاب بالسياسة الأمريكية بعد الحرب الباردة وافتقادها للمصداقية . وبروز نظرية " صدام الحضارات " كما أشار صامويل هانتجتون (25).
كما أن القيم التي تعكس مكونات الثقافة الإعلامية الجماهيرية الأمريكية هي كالتالي :
· الفردية : بإقناع الفرد بأن حقيقة وجودة محصورة بفرديته ، وكل ما عداه لايعنيه ، بهدف تحطيم الرابطة الجماعية الاجتماعية ، تمهيداً لإلغاء الهوية القومية بحيث يبقى فقط بالإطار العالمي .
· الخيار الشخصي : وهو يرتبط بالفردية ، بتكريس النزعة الأنانية لدى الأفراد تحت سيطرة وهم حرية الاختيار والحرية الشخصية . والقضاء بذلك على فكرة الوعي الاجتماعي والولاء وطمس الروح الجماعية .
· الحياد : أن كل الأفراد والأشياء المحيطة بالإنسان تتسم بالحياد . وبالتالي الأمور كلها سيان بالنسبة له . مما يؤدي إلى غلبة قيم اللامبالاة ، أي تكريس التحلل وعدم الارتباط بالمبادئ والأخلاقيات .
· الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لا تتغير : بالنظر للفوارق الاجتماعية بوصفها أمورا طبيعية لايمكن تغييرها ، بهدف تكريس النزعة السلبية وشل روح المقاومة ، وبث روح الاستسلامية مما يحبط أي محاولة لتغيير الواقع .
· الاعتقاد في غياب الصراع الاجتماعي: أي إشاعة مناخ الاستسلام للجهات المستغلة وللقوى المهيمنة ، وينتهي الأمر بالأفراد بقبول التبعية والخضوع للهيمنة عن طيب خاطر .
الحواشي :
(18) ورد في :
Waters, M.; Globalization ( Routledge, London, 1995 ), p.102 .
(19) Ibid
(20) محمد عابدي الجابري ، العولمة والهوية الثقافية ، مجلة المستقبل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد228 ، بيروت فبراير 1998 ، ص19 .
(21) المرجع السابق ، ص26 .
(22) ممدوح محمود منصور ، ( م . س . ذ ) ، ص77 .
(23) قدري محمود إسماعيل ، الاتجاهات المعاصرة وما بعد المعاصرة في دراسة العلاقات الدولية ، ط1 ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص145 .
(24) حيدر إبراهيم ، العولمة وجدل الهوية الثقافية ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر1999 ، ص95- ص97 .
(25) المرجع السابق ، ص107

ليست هناك تعليقات: