الاثنين، 7 سبتمبر 2009

3-5: العولمة Globalization

بناءاً على ما سبق ذكرة فإن العولمة عملية مدارة، أي أنها تتمثل في مجموعة من الأنشطة الغائية التي تقبع خلفها إرادات واعية، والتي تستهدف تحقيق غايات معينة . وهكذا يمكن القول بأن ثمة إرادات تدبر وتدير هذه الأنشطة تحقيقاً لغايات محدودة واعتماداً على الوسائل والأساليب والأدوات الملائمة. وعلى قدر تباين هذه الوسائل والأدوات من حيث طبيعتها ، تتعدد وتتنوع أبعاد ظاهرة العولمة من سياسية، واقتصادية ، وثقافية ، واجتماعية، وعسكرية، وسكانية، واتصالية، وتكنولوجية، وبيئية، ومعرفية. إلا أننا وفي هذا التقرير سنكتفي بالأبعاد السياسية و الاقتصادية و الثقافية، والتي أثرت بشكل مباشر و غير مباشر على العلاقات الدولية .
* الأبعاد السياسية لظاهرة العولمة :
لقد تعددت وتنوعت انعكاسات ظاهرة العولمة على المجال السياسي داخلياً وخارجياً على حد السواء ، ولعل أبرز هذه الانعكاسات صعوبة الفصل وعلى نحو متزايد بين ماهو داخلي وبين ماهو خارجي ، فلقد ارتكزت أسس التنظيم الدولي – ومنذ قرون عديدة – على النظر إلى جماعة الدول باعتبار كل أن دولة تمثل وحدة سياسية متميزة عما عداها من الدول ، كما اقتصرت العلاقات الدولية – في بداياتها الأولى – على صورتين من صور التعامل الدولي الرسمي ألا وهما صورتا : الدبلوماسية ، والإستراتيجية (الحرب) . وهكذا ، وفي ظل النظر إلى الدول كوحدات مستقلة منعزلة عن بعضها البعض ، واقتصار التفاعل فيما بينها على أضيق نطاق . كان من الميسور الفصل بين ما يُعد من الشؤون الداخلية للدول . والتي لايصح للغير التدخل فيها عملاً بمبدأ " عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى " ، وبين ماهو دولي أو خارجي . غير أنه بمرور الوقت أخذت هذه الفكرة تتراجع تدريجياً تحت ضغط التفاعل المتزايد فيما بين الدول سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي ، ونتيجة لتنامي ظاهرة الاعتماد الدولي Interdependence . بحيث لم يعد يُنظر إلى الحدود الإقليمية كحاجز أو كعائق يحول دون التفاعلات الدولية ، وقد أدى ذلك إلى ظهور الفكرة التي عرفت بسياسات الترابط Linkage Politics بمعنى الترابط بين الأوضاع الدولية العالمية وبين الأوضاع المحلية الداخلية والعكس (14).
كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن ظاهرة العولمة قد تواكبت مع التحول الذي طرأ على صورة النسق العالمي : من صورة النسق ثنائي القطبية إلى صورة جديدة راحت تعرف بالنسق أحادي القطبية Unipolar System الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ويدور في فلكها مجموعة من الدول الصناعية الكبرى (دول الشمال الغني) ، بينما تمثل دول الجنوب مجموعة الدول التابعة نظراً لفقرها الاقتصادي وضعفها الاستراتيجي ومن ثم افتقارها إلى أهم أداتين من أدوات التأثير الدولي في عالمنا المعاصر ، بحيث باتت هذه الدول تمثل – تبعا لذلك – مجرد مسرح للنافس فيما بين القوى الكبرى . وتتمثل أبرز الأبعاد والانعكاسات السياسية للعولمة فيما يلي :
1. تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول " Sovereignty " : يمثل هذا المبدأ والذي نبه اليه جان بودان Jean Bodin عام 1576 – حجر الزاوية للتنظيم الدولي ، حيث أقرته كافة القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية . غير أن مفهوم السيادة قد لحقه التغيير بشكل ملموس منذ منتصف القرن العشرين، وذلك لعدة أمور:

· التوسع المتزايد في إبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة والنظم الدولية : والتي تتضمن قواعد وأحكام ملزمة لعموم الدول ( كنظم الرقابة والإشراف الدولي -والتحقيق والتفتيش بمجالات حقوق الإنسان – والتسلح النووي – واتفاقيات العمل الدولية .... الخ ) .
· الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية : كفالة الضمانات الدولية لعدم انتهاك هذه الحقوق بدعم من الأمم المتحدة .
· دعوة بعض فقهاء القانون الدولي للموائمة بين اعتبارات الصالح الدولي ومقتضيات السيادة الوطنية للدول : وعلى رأسهم Alvares في نظريته عن الاعتماد الدولي الاجتماعي المتبادل .
· الاتجاه المتزايد نحو إقامة الكيانات الدولية العابرة للقومية Transnational ، أو فوق القومية .
· بروز مشكلات دولية تستلزم تكاتف الجهود الدولية والدول للتوصل إلى حلول بشأنها : كمشكلات البيئة والتلوث ومشكلات الطاقة وندرة المياه العذبة والجفاف والتصحر والتضخم والبطالة والفقر ونقص الغذاء والإرهاب والعنف السياسيات وانتشار الأمراض كالايدز والمخدرات والجريمة المنظمة .
· تزايد إمكانية التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى : تحت أعذار إنسانية وحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات العرقية ، والتدخل بدعوى مقاومة الإرهاب الدولي ، مع عدم وجود معايير واضحة يتقرر على أساسها التدخل أو عدم التدخل ، وهو ما يعرف بمشكلة "ازدواجية المعايير" أو سياسة "الكيل بمكيالين" .
ويرى بعض الساسة أن العالم يشهد حالياً ما يمكن تسميته " بأفول السيادة " ، حيث يرى البعض أن النسق العالمي قد انتقل فعلاً إلى مرحلة ما بعد السيادة Beyond Sovereignty ، ويرى كل من Clark و Williams ضرورة إعادة النظر في مفهوم السيادة وتقديم تعريف واقعي له مثل " السيادة الجزئية " أو المقيدة أو المشتركة ، وأن المدلول المعاصر لمفهوم السيادة يشير حالياً لقدرة الدولة على تدبر أمورها في إطار علاقاتها بالدول الأخرى على نحو يكفل لها حماية مصالحها . وهناك من يرى رفض فكرة إعادة تعريف مفهوم السيادة أو تحديد مفهوم معاصر له ويرون من الأفضل الاعتراف بتجاوز هذا المفهوم والانتقال لما يسمى بمفهوم الحكم في مرحلة ما بعد السيادة (15).
2. تراجع قوة الدولة القومية وتضاؤل دورها : وذلك بدخول لاعبين رئيسيين للنسق الدولي كالشركات المتعددة الجنسيات أو عابرة القوميات MNC'S ، والمنظمات غير الحكومية NGO'S ، والمنظمات الدولية فوق القومية "كالاتحاد الأوروبي" .
ومن أبرز الأسباب والعوامل التي هيأت إلى إضعاف دور الدولة القومية ، مايلي :
· سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة قطبية: وما ترتب عليه من تهاوي الأنظمة الشمولية التي تعظم دور الدولة ومؤسساتها ، وتأخذ بنظم التخطيط المركزي . وظهور الدعوة للأخذ بالأيدلوجية الليبرالية والتعددية ، وإتاحة المجال أمام آليات السوق لتوجيه دفة التفاعلات الاقتصادية .
· الاتجاه نحو التحول الديمقراطي والأخذ بالتعددية السياسية : سواء على نحو جاد بتحرك شعبي حقيقي ، أو على نحو شكلي بالأخذ ببعض الواجهات الديمقراطية كنوع من أنواع مسايرة الركب على الساحة الدولية مع دعوة أنصار العولمة إلى تفعيل دور المجتمع المدني .
· الاتجاه نحو الأخذ بالحرية الاقتصادية : مواكبة للتحول الديمقراطي سياسياً بالأخذ بنظام اقتصاديات السوق وتخفيف قبضة الحكومة على النشاط الاقتصادي داخلياً وخارجياً وهذا ما يضعف قدرة الدولة والحكومات على إدارة الاقتصاديات الوطنية ، الأهداف الحقيقية وراء تبني هذه السياسة :
أ‌- إضعاف القدرة الاقتصادية للحكومات الوطنية : بعد تصفية القطاع العام والحد من قدرتها بالتأثير على السوق المحلية .
ب‌- إضعاف السيطرة الحكومية على الأفراد : كون الحكومة لم تعد صاحب العمل الأكبر وبالتالي عدم السيطرة عليهم .
ت‌- إتاحة المجال أمام الرأس المال الخاص والأجنبي للسيطرة على الاقتصاد الوطني : من خلال تملك المشاريع وبالتالي السيطرة على المقدرات الاقتصادية للدولة والتحكم بها .
ومن نتائج الأخذ بسياسة الخصخصة والحرية الاقتصادية :
أ‌- عدم قدرة الحكومات الوطنية من إدارة وتوجيه النشاط الاقتصادي: وبالتالي عدم القدرة على وضع التشريعات والقوانين الاقتصادية.
ب‌- عدم توافر البيانات والمعلومات والمؤشرات الاقتصادية: لاسيما في ظل تخلف نظم المعلومات في العديد من الدول النامية مما انعكس سلباً على عملية رسم السياسات العامة الاقتصادية.
ت‌- الآثار الاجتماعية السلبية : بفقدان العديد من المواطنين والعمال وظائفهم مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة . مما ينبئ لحدوث مشكلات اجتماعية خطيرة " كالجريمة / الإدمان / تفاوت الدخل " مما يؤدي لزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في العديد من الدول .
وبذلك يتضح أن العولمة قد هيأت لإضعاف الدولة سياسياً واقتصادياً بحيث باتت عاجزة عن تلبية المتطلبات و الاحتياجات المتزايدة للشعوب فضلاً عن عجزها عن التدخل لحماية المصالح الاقتصادية الوطنية في مواجهة سياسات وضغوط العولمة (16).
3. بروز مفهوم الحكم Governance كبديل للحكومة Government : يرى دعاة العولمة أن مفهوم الحكم أكثر تعبيراً وتناسباً مع الواقع السياسي والوطني والدولي حالياً من مفهوم الحكومة ، فلم تعد الحكومات وحدها تحتكر الوظائف السياسية في الدولة (وظائف الحكم) ، بل باتت تشاركها عدة جهات داخلية وخارجية ، وفقاً لما يلي :
· تزايد دور المنظمات الدولية العالمية والإقليمية والمتخصصة : ( كالأمم المتحدة – الاتحاد الأوروبي – صندوق النقد الدولي – البنك الدولي ... الخ )
· تزايد الاتجاه نحو إرساء العديد من النظم الدولية في العديد من المجالات في العلاقات الدولية : ويقصد بالنظم الدولية ما ذكره Krasnar : " مجموعة من المبادئ الضمنية أو الصريحة ، وكذلك الأنماط وقواعد السلوك ، وآليات صنع القرار ، التي تلتقي عليها مجموعة من الدول أو تنصاع لها فيما يتصل بمجال معين من مجالات العلاقات الدولية " . كالاتفاقيات العامة للتجارة والتعرفة الجمركية GATT والتي هيأت لقيام منظمة التجارة العالمية WTO .
· تزايد الدور الذي تلعبه بعض الهيئات الداخلية "دون الدولية" : كالكيانات المحلية أو البلدية في العلاقات الدولية على نحو يتجاوز أحياناً الدور الذي تمارسه الحكومات المركزية . فهناك عدة مقاطعات كندية وصينية وبعض الولايات الأمريكية توفد مبعوثين لها لدى الدول الأخرى وتمارس دورها باستقلالية نسبية . مثال : ( مجلس الأقاليم الأوروبية / لجنة الاتحاد الأوروبي للمناطق / اتفاقيات التعاون أو التآخي بين المدن / منظمة المدن العربية . الخ ).
· تزايد دور الهيئات فوق الدولية والمتعددة القومية : فالبنك الدولي وصندوق النقد الأصلي من برامج تنموية لتحقيق الاستقرار النقدي العالمي ليصل إلى حد التدخل في توجيه السياسات والبرامج الاقتصادية في العديد من الدول بدعوى تحقيق الاستقرار الاقتصادي ، أو ما يعرف برامج التكيف الهيكلي ، التي تفرض على الدول الأخذ بسياسات معينة (ذات توجه ليبرالي) . وإرسال المراقبين للتأكد من مدى التزام الحكومات بتعليماتها . " وهو شكل من أشكال الوصاية الدولية الجديدة " .
· النمو الهائل في قوة الشركات المتعددة الجنسيات : حيث تضخمت رؤوس أموال هذه الشركات وحجم عملياتها الذي زاد على 7 تريليون دولار أمريكي ، أو من حيث عدد العاملين في فروعها المنتشرة في العالم .
مثال : حجم عمليات شركة "جنرال موتورز" يفوق إجمالي الناتج القومي للدانمرك ، كما أن حجم عمليات شركة فورد Ford الأمريكية يفوق إجمالي الناتج القومي لجنوب أفريقيا ، وكذلك حجم عمليات شركة تويوتا Yoyota اليابانية يزيد على إجمالي الناتج القومي للنرويج .
· تزايد حدة النزعة الأوليجارشية على مستوى النسق الدولي : مع تواكب مولد ظاهرة العولمة تراجع الاتحاد السوفييتي السابق عن موقعة كقوة قطبية . وتحول النسق لأحادي القوة القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي سيطرت وتحكمت في مجريات الأحداث العالمية مع تماسك المعسكر الليبرالي تحت لوائها مع انسياق الاتحاد الروسي وحذر السياسة الخارجية الصينية. العالم حالياً يشهد ما يسمى بحكومة الثمانية الكبار G8 ، والتي تضم الدول الصناعية السبع الكبرى + روسيا ، وهي شبيهة إلى حد بعيد بفكرة حكومة الخمسة الكبار التي عرفتها أوروبا خلال القرن 19 " عصر التضافر الأوروبي " . وتتحكم حكومة الثمانية في توجيه دفة الشئون الدولية مع الولايات المتحدة ، وباتت تفرض رؤاها الخاصة على العالم ككل مع ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين (17).
4. تزايد الاتجاه نحو التكتل الدولي بين دول الشمال مع تزايد حدة التفتت و التشرذم في دول الجنوب : هناك ثمة نزوعاً نحو التكتل السياسي والاقتصادي الإقليمي بين الدول المتقدمة ، وتفكك وتفتت سياسي على العديد من الكيانات السياسية في شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي السابق وفي مناطق أخرى بالعالم لضعف السلطات الوطنية أو الصراعات العرقية و الطائفية والحروب الأهلية . حيث أن نزعة التكتل الإقليمي في دول الشمال تتمحور حول اعتبارين هما : ( التكامل الاقتصادي – التعاون الأمني ) .
مثال : ( الاتحاد الأوروبي – مجموعة دول أمريكا الوسطى1960 – مجموعة دول شمال أفريقيا 1991 – مجموعة جنوب شرق آسيا 1968 – مجموعة دول الكاريبي 1973 – مجلس التعاون لدول الخليج العربية 1981 – مجموعة وسط أوروبا 1989 – مجموعة دول أمريكا الجنوبية 1995 ) .
في ظل سياسات العولمة تتجه القوى الكبرى كما ذكرنا آنفاً للتآلف فيما بينها مكونة كياناً أكبر لتصبح أكثر قدرة على التنسيق والتحكم وتوجيه مجريات الأحداث الدولية ، في تبقى الدول الصغيرة ضعيفة مفتتة فلا تجد أمامها سوى خيارين أحلاهما مر ، فإما التعلق بأذيال القوى الكبرى والخضوع والتبعية لها ، وإما الغرق في بحار العولمة والانتهاء إلى التخلف والتهميش والخروج من التاريخ . فدول الجنوب تعيش على هامش التفاعلات الدولية وفق معايير تخدم مصالح القوى الكبرى بالمقام الأول والأخير .
الحواشي:
(14) عبدالخالق عبدالله ، العولمة : جذورها و فروعها و كيفية التعامل معها ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر 1999 ،ص39 .
(15) المرجع السابق ، ص80 .
(16) ممدوح محمود منصور ، ( م . س . ذ ) ، ص47 .
(17) أحمد الرشيدي ، التطورات الدولية الراهنة ومفهوم السيادة الوطنية ( سلسلة بحوث سياسية "85" ، مركز البحوث والدراسات السياسية ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة ، 1994 ) ص8-ص11 .

ليست هناك تعليقات: