الجمعة، 25 سبتمبر 2009

الإشكالية المفاهيمية للأمن القومي:

بالرغم من كون "الأمن القومي" من المفاهيم المحددة إلى درجه ما ، وذلك نظراً لجهود الأكاديميين والسياسيين والعسكريين في هذا المجال، إلا أنه لازال مفهوماً غير واضح ، كما أنه ليس دقيق الملامح ، نظراً لعدة عوامل بعضها عام ، وبعضها خاص على المستوى العربي :
- على المستوى العام:
1. التداخل بين الاختصاصات: وذلك في ما يتعلق بالتخصصات الدقيقة في العلوم السياسية وتناولها لموضوع الأمن القومي ، فهل يختص ذلك بالعلاقات الدولية، أو بالنظم السياسية ، أو أنه حقل مشترك بين فرعي العلوم السياسية المذكورين . ناهيك عن إسهامات العلوم الأخرى كعلم الاجتماع والعلوم العسكرية ، حيث أن لكل علم تصور خاص للأمن القومي .
2. عدم الاتساق: بالنسبة لمفهوم الأمن ، بل أن باري بوزان (Barry Buzan) يعرفه بأنه مفهوم متعارض ، تتنافس أبعادة إلى حد كبير ، الأمر الذي وصل ببعض المفكرين إلى القول بأن مفهوم الأمن قد لا يكون له معنى أساساً .
3. قلة الإسهامات النظرية: التي تتناول المفهوم بشكل محدد والاكتفاء بالشواهد الامبريقية ويرجع ذلك إلى :
· وجود نوع من الاختلاط واللبس المتبادل بين مفهوم الأمن ومفهوم القوة ، إلى حد أن البعض أصبح مفهوم الأمن لديهم مشتقاً من مفهوم القوة .
· الانتقادات ضد الواقعيين ، ومنهجهم ، ومن ثم عدم الاهتمام بالمفهوم ، حيث اتجه المثاليون إلى مفهوم آخر يتمثل في السلام بدلاً من الأمن .
· إن حقل الدراسات الإستراتيجية والذي مثل الأمن القومي مفهوماً جوهرياً فيه ، اهتم بالعديد من الأدبيات الامبريقية ، الخاصة بالسياسة العسكرية ، وتراجع البعد التنظيري فيه خاصة في مجال العلوم السياسية (1).
- على المستوى العربي :
1. تركيبة الواقع العربي:
والتي تعاني من عدم التطابق بين البعدين الاجتماعي القومي و السياسي السلطوي، أي بين الأمة والدولة ، مما انعكس ذلك على المفاهيم والمواقف العربية ، فردياً ومؤسسياً ، مجتمعياً وسلطوياً ، فتراوحت بين التصورات الوطنية والقومية للأمن (2).
2. ازدواجية الترجمة: وذلك باقتباس الدراسات العربية مصطلح الأمن القومي من اللغتين الانجليزية (National Security) والفرنسية (Securete Nationel)، وترجمته مرة بصيغة "الأمن الوطني"، ليناسب حالة الدولة القطرية العربية القائمة، ومرة بصيغة "الأمن القومي"، ليتناسب الحالة المنشودة للأمة العربية ، وليكون لكل ترجمة معناها الخاص المختلف للترجمة الثانية ، نظرياً وعملياً ، ولتكون ازدواجية الترجمة ، انعكاساً لازدواجية الواقع العربي ، بالمقابل إذا ذكر مصطلح الأمن القومي مرتبطاً بحالة العربية ، فقد يتطابقان المصطلحان وقد يتعارضان ، تبعاً لطبيعة العرض وأسلوبه وموضوعه (3).
وبعد التعرف على الأزمة المفاهيمية للأمن القومي ، والتعرف على أبرز التعريفات المطروحة لهذا المفهوم ، يمكننا التوصل لأبرز خصائص مفهوم الأمن القومي .
* خصائص الأمن القومي :
1- مفهوم مركب: من حيث النظرية والتطبيق ، كما أنه ذو بعدين : داخلي وخارجي ، فالداخلي يتعلق بالدولة و خصائصها واحتياجاتها وأهدافها ، وقد لا تتماثل المطالب الأمنية للدول مع بعضها البعض وذلك لخصوصية كل وحدة سياسية ووجود الفوارق بين الحالات المختلفة ، أما البعد الخارجي فيتعلق بالمتغيرات والبيئات الإقليمية والدولية التي تعيش الدولة في إطارها وتتفاعل فيها ومعها ، وفي إطار علاقاتها مع غيرها من الوحدات الدولية ، ففي ظل ظاهرة العولمة Globalization والاعتمادية المتبادلة ، لم يعد بالإمكان الفصل بين ما هو نظري عن ما هو عملي ، والداخلي عن الخارجي ، والمحلي عن الإقليمي والدولي ، والمجتمعي عن الحكومي .
2- الشمولية: فمفهوم الأمن القومي يشمل في إطاره كل أوجه الحياة الإنسانية (الطبيعية والاجتماعية والسياسية)، وكل أنشطتها (العسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتربوية .... الخ)، مما يجعل منه مصدراً لظهور المفاهيم المتخصصة للأمن القومي في المجالات المختلفة مثل (الأمن العسكري ، والأمن الاقتصادي ، و الأمن الغذائي ، والأمن الثقافي ، والأمن المائي ... الخ)، التي تبقى – على الرغم من استقلالها – مفاهيم فرعية للمفهوم الكلي للأمن القومي .
3- النسبية: فان مفهوم الأمن القومي يتصف بالنسبية كونه يعتمد بشكل رئيسي على تصورات صناع القرار السياسي حيال فهمهم لطبيعة التهديدات التي تتعرض لها الدولة ، بالرغم من أهمية العوامل الموضوعية في تحديد مرتكزات الأمن القومي ، إلا أن العوامل الذاتية التي تتعلق بصناع القرار ونوعيتهم ومدى وعيهم وإدراكهم هي التي تقرر مدى التهديد الذي تتعرض لها الدولة ، كما أن نسبية الأمن تعتمد على عدة أمور يمكن من خلالها لأي دولة أن تبني سياساتها ، أهمها غياب أي تهديد خارجي لأي دولة من الدول ، أو وجود جماعه دولية فعالة للأمن الجماعي قادر على ردع أي دولة تقوم بالاعتداء على دولة أخرى ، حسب طبيعة الوضع القائم والمتغيرات الدولية والإقليمية ، فغالباً ما تميل الدولة إلى ترجيح اعتمادها على قوتها الذاتية لتأمين أمنها القومي . بيد أن الاعتماد على القوة الذاتية لا يمكنه دائماً أن يحمي الدولة ما لم يكن لها دعم من قوى دولية أو إقليمية أخرى ، ولقد ساهم التطور التكنولوجي للسلاح في تأكيد نسبية أمن الدول وهذا بحد ذاته سبب كاف لإسقاط صفة الإطلاق عن أمن أي دولة .
4- الديمومة: فالأمن القومي ثابت ودائم ، كونه يمثل الثوابت القيمية الأساسية والمبادئ النظرية العامة ، ومن ثم فان تغير الاهتمامات التقليدية للدول أو أي من وحدات النسق الدولي الأخرى لا يلغي حقيقة أن الأمن بالنسبة إليها يحتفظ على الدوام بمبادئه النظرية وثوابته القيمية ، ويحظى بالمكانة الأولى في سُلم أولويات الدول .
5- التنوع: من حيث الصيغ المفاهيميه المعبرة عنه ، والتطبيقات العملية المجسدة له ، بالنسبة إلى كل الدول ، أو بالنسبة للدولة ذاتها إذا اختلفت الظروف والأوقات . فالصياغات المفاهيمية للأمن ، وسياساته التطبيقية ، محكومة – أولاً – بخصائص الدولة وقدراتها وتقديراتها بشأن قيمها واحتياجاتها ومصالحها وأهدافها ، والتهديدات والمخاطر التي تواجهها . وهي ثانياً متفاعلة مع المتغيرات البيئية الداخلية والخارجية .
الحواشي :
(1) محمد أحمد العدوي ، العشوائيات والأمن القومي في مصر 1990-2000 : دراسة في الأبعاد الداخلية ، رسالة دكتوراه ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ، القاهرة 2005 ، ص4-7 .
(2) لواء محمود إسماعيل محمد ، الأمن القومي العربي – المصري وحرب أكتوبر ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا ، القاهرة 1985 ، ص21-ص22 .
(3) علي عباس مراد ، مشكلات الأمن القومي ، م.س.ذ ، ص25-26 .

الاثنين، 21 سبتمبر 2009

الأمن القومي National Security

لا يوجد تعريف واحد محدد لمفهوم الأمن القومي ، كغيره من مفاهيم العلوم الاجتماعية ، بالرغم من كثرة ما كتب عن هذا المفهوم ، إلا أن التطورات التي شهدها العالم منذ بداية التسعينات - (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة) ونهاية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، واعتماد الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيه قوامها " الحرب الاستباقية " وفقاً لوثيقة الأمن القومي الأمريكي 2002 – 2006 – أدت إلى طرح مفاهيم أمنية جديدة تختلف عن هو مطروح بالسابق ، ومغايرة للنظرة التقليدية للأمن ، التي تنصب على الأبعاد العسكرية والدفاعية باعتبارها محور الأمن للدول ، إذ أضافت التطورات الأخيرة أبعادا جديدة لمفهوم الأمن ، فأصبحت مفاهيم الإصلاحات السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة والمجاعات لا تنفصل عن مفهوم الأمن القومي ، حتى أصبحت هذه المفاهيم شعارات لبعض الدول كستار لأطماعها التوسعية ، بالتدخل في الشئون الداخلية للدول ، أو كمبرر لخوض حرب ضد دولة أو مجموعة من الدول .
ويرى الباحث أن تحديد مفهوم الأمن وضبطه بعد التطورات التي لحقت به - بعد نهاية الحرب الباردة بين القطبين وتحول النسق الدولي من ثنائي القوى القطبية إلى أُحادي القوى القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية – قد يساعد في فهم كثير من القضايا المتعلقة بموضوع الدراسة ، وذلك بناءاً على العوامل التالية :
· يعتبر موضوع الأمن القومي من المواضيع المركبة والمعقدة وله أبعاد مختلفة ، حيث تتلاقى عنده أفرع علمية مختلفة وظواهر إنسانية متعددة ، حيث باتت الدراسات المتعلقة بالأمن القومي تتعرض للجوانب المختلفة (الجغرافية و التاريخية و الجيواستراتيجية و الاجتماعية و السياسية و العسكرية ... الخ) .
· بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة رسمياً بين المعسكرين الشرقي والغربي ببداية التسعينات ، عمدت العديد من الدول الكبرى إلى تبرير سياساتها المتعارضة في كثير من الأحيان مع مبادئ الأمم المتحدة بدعوى الحفاظ على الأمن العالمي والكرامة الإنسانية كغطاء إلى تحقيق أهدافها وأطماعها التوسعية ، فالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تحذر دائماً من خطر أسلحة الدمار الشامل على الأمن الدولي ، ولكن بالوقت ذاته تتعامل بازدواجية واضحة تجاه هذه المسالة ، اذ استخدمت القوة العسكرية مع العراق ، والضغوط السياسية والتهديد بالقوة العسكرية على إيران على خلفية البرنامج النووي الإيراني ، في حين تتجاهل الترسانة النووية الإسرائيلية .
· تداعيات لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مفهوم الأمن القومي ، حيث تم طرح أبعاداً جديدة ، بفعل حالة " التدويل " للأمن في بعض المناطق في ظل سياسة التدخل العسكري المباشر التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في جنوب آسيا وشبة الجزيرة الكورية ، ثم الشرق الأوسط في سياق عمليات كبرى مثل حرب أفغانستان (2001-2002) ، وأزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية (2002-2003) واحتلال العراق (مارس 2003) ، وتكشف هذه التدخلات المتفرقة عن استغلال الولايات المتحدة الأمريكية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لإعادة ترتيب أجندة الأمن الدولي بما يتناسب مع استراتيجيها الكونية الرامية إلى السيطرة على العالم .
وإذا كان مفهوم الأمن القومي من المفاهيم القابلة للتغيير والتطور ، باعتبارة يتضمن أبعاداً مختلفة ، سياسية واقتصادية وعسكرية وجغرافية و ديمغرافية ... الخ ، فان هذا ينطبق بوضوح على مفهوم الأمن القومي لدولة الكويت ، ويرجع ذلك إلى ارتباطه بدوائر أمنية مختلفة كالدائرة الخليجية والعربية والإقليمية والدولية .
* التعريف بمفهوم الأمن القومي National Security:
لعل أوضح بديهيات المعرفة الإنسانية وأرسخ ثوابتها ، أن مطلب الأمن ، بمعانيه وتطبيقاته العامة والخاصة الدالة على الطمأنينة وسلامة الوجود وضمان ديمومته واستمرار مقوماته وشروطه ، وحمايته من التهديدات والمخاطر ، هو أول المطالب الطبيعية للكائنات الحي
، وأهم دوافعها الغريزية وأكثرها ضرورة وحيوية ، لأن معنى الأمن وضرورته يقابلان معنى الحياة وضرورة استمرارها وسلامتها من الأخطار ويساويانها ، وبذلك يمكن القول : ان مطلب الحياة الأول ، ودافعها الأهم ، والثابت / المتغير المحرك لنشاطها ، الحاكم لها والمتحكم فيها (1). ولتعدد الخصائص الاجتماعية للحياة الإنسانية إلى جانب خصائصها الطبيعية ، فقد كان محتماً على كل مطالب هذه الحياة وأنشطتها ، بما في ذلك الأمن ، أن تكتسب طابعاً مركباً ، تجتمع فيه الخصائص الطبيعية والاجتماعية وتتفاعل ، ليكون الأمن مطلباً متعدد الأوجه ، متنوع الأبعاد ، قادراً على تحريك كل مفردات الحياة ومفاصلها ، إذ تكتسب الحياة الاجتماعية للإنسان بعداً سياسياً ، تفرضه عليها حاجتها إلى التنظيم والتوجه والتحكم ، وتجسده فيها أشكال التنظيم السلطوي السياسي المختلفة اللازمة لذلك ، فان مطلب الأمن فيها سيكتسب بدوره ، بعداً سياسياً يجعل منه أيضاً أمناً للسلطة السياسية وشخوصها ومؤسساتها ، بقدر ما هو في الوقت ذاته أمن طبيعي واجتماعي للإنسان والجماعة الإنسانية التي تحكمها هذه السلطة ، وتضبط نشاطاتها، وتوجه تفاعلاتها ، وتتحكم في علاقاتها ، ليكون الأمن بالنسبة إلى الدولة ، موازياً لوجودها واستمرارها ، أو كما يقول ديفيد بن جوريون : (إن أمن الدولة ، ليس قضية حماية الاستقلال أو الأراضي أو الحدود أو السيادة ، إنما هو قضية البقاء على قيد الحياة)(2).
لقد اتسمت العلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا 1648 بمهيمنة منظومة مفاهيمية متكاملة تمحورت حول مبادئ المساواة في السيادة ، وتوازن القوى ، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول ، والتركيز على الاعتبارات الخاصة بأمن الدولة القومية دون غيره ، حيث قدمت تلك المنظومة المفاهيمية تفسيرات ملائمة لطبيعة العلاقات الأمنية الدولية ، ثم تلتها عملية صياغة مصطلح الأمن القومي الذي يشير إلى واقع تطبيقات الأمن القومي ويعبر عنها ، وتم استخدامه رسمياً أول مرة عام 1947 في نص القانون الخاص بتشكيل مجلس الأمن القومي الأمريكي ، ليكون هذا المصطلح انعكاساً للخبرة التاريخية للتطبيقات والمفاهيم الأمنية ، كما أنتجتها تجربة المجتمعات الغربية في عصر القومية ودولها وتطورها (3) .
إلا أن العقد الأخير من القرن العشرين، وبدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد شهد أحداثاً غيرت وجه العالم، وأعادت ترتيب توازنات النسق الدولي وعلاقات القوة فيه ، وكانت بداية تلك الأحداث مع الحرب الباردة وبعدها الوفاق الدولي ، ثم تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي . رافق ذلك – ثم تبعه – انتشار قيم الليبرالية ( الديمقراطية ) والاقتصادية ( الرأسمالية )، وانتقالها إلى أغلب المجتمعات ، حتى التي كانت ترفض هذه القيم وتعاديها في السابق . وأخيراً أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما أحدثتها من تغيرات دولية طالت مفهوم الأمن وخصائصه وتطبيقاته ، بما يناسب المستجد من هذه الخصائص ، وما يعبر عنها ويرتبط بها من متطلبات الأمن واشتراطاته (4).
وبناءا على ذلك ، فقد أنتجت الدوائر المعنية بالأمن القومي ، مجموعة كبيرة من المفاهيم ، تتوحد فيها المبادئ النظرية العامة، وتختلف الصياغات المفاهيمية والسياسات التطبيقية ، وكغيره من مفاهيم العلوم الاجتماعية ، حيث لا يوجد اجماع واضح حول المقصود بظاهرة الأمن القومي ، لا من حيث التعريف ، ولا من حيث المستهدفين بالأمن ، ولا من حيث مصادر التهديد ، ولا من حيث سُبل وأدوات تحقيق الأمن القومي ، الأمر الذي تعكسه ، بشكل أكثر وضوحاً ، المراجعة التالية لبعض تلك المفاهيم كما صاغها عدد من الباحثين العرب والأجانب .
بالبداية فالأمن في معناه اللغوي هو نقيض الخوف ، أي أن كلا المفهومين يمثلان وجهين لعملة واحدة ، فالأمن يعني التحرر من الخوف والإحساس بالطمأنينة ، والشعور بالأمن يمنح الفرد القدرة على مواجهة متطلبات حياته ، وحماية طرق وأسلوب هذه الحياة بصورة شاملة . وقد عرفت دائرة المعارف الدولية للعلوم الاجتماعية الأمن القومي للدولة بأنه " قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من التهديد الخارجي "(5) .
و يرى طلعت أحمد مسلم أن الأمن القومي هو "تأمين كيان الدولة و المجتمع ، ضد الأخطار التي تهددها داخلياً وخارجياً ،وتأمين مصالحها ، وتهيئة الظروف المناسبة ، اقتصادياً واجتماعياً ، لتحقيق الأهداف والغايات التي تعبر عن الرضا العام في المجتمع"(6) ، أما أمين هويدي فينظر إلى الأمن القومي على أنه " الإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها ، للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل ، مع مراعاة المتغيرات الدولية" (7)، ويعالج على الدين هلال الأمن القومي من منظور واسع بوصفة " مفهوماً يتصف بالشمول ، فهو ليس مسألة حدود وحسب ، ولا قضية إقامة ترسانة من السلاح وحسب ، انه يتطلب هذه الأمور وغيرها، فهو قضية مجتمعية تشمل الكيان الاجتماعي بكافة جوانبه و علاقاته " (8)، ويرى محمد طه بدوي وطلعت الغنيمي أن الأمن القومي هو "المجموع الكلي للمصالح الحيوية للدولة ، كحماية الإقليم و الاستقلال" ، التي تكون الدولة ، بفعل أولوية هذه المصالح وأهميتها لها ، مستعدة لتبني خيار الحرب لحمايتها والدفاع عنها ، وتقدمة أحياناً على خيار حماية الأمن والسلام الدوليين (9)، ويتصور حامد ربيع أن الأمن القومي هو " مجموعة المبادئ التي تحدد قواعد الحركة في التعامل الإقليمي ، المرتبط بضمان وحماية الكيان الذاتي" ، ثم يعود في موضع آخر ليصفه أنه " تلك المجموعة من القواعد الحركية التي يجب على الدولة أن تحافظ على احترامها ، وأن تفرض على الدولة المتعاملة معها مراعاتها ، لتستطيع أن تضمن لنفسها نوعاً من الحماية الذاتية الوقائية الإقليمية "(10).
أما والتر ليبمان (Walter Lippman) من الباحثين الأجانب فقد ذهب إلى أن الدولة تكون آمنة عندما لا تضطر إلى التضحية بقيمها الأساسية في سبيل تجنب الحرب ، وإذا دخلت الحرب فانها تكون قادرة على الانتصار وحماية هذه القيم . ان أمن الدولة يساوي قوتها العسكرية وأمنها العسكري ، وقدرتها على مقاومة الهجوم المسلح او التغلب عليه (11)، ووجد أرنولد ولفرز (Arnold Wlfers) أن للأمن القومي بعدين : بعداً موضوعياً هو حماية القيم ، وبُعداً ذاتياً هو غياب الخوف على تلك القيم من أي هجوم . وأنه يعني في النهاية "غياب شر عدم الأمن" ، وأن زيادة الأمن أو تناقصه مرتبطان بقدرة الدولة على ردع الهجوم أو هزيمته (12)، ويعتقد أموس جوردن (Amos A. Gordon) ووليم تايلور (William J. Taylor) أن الأمن القومي ، بمفهومة الضيق ، يشير إلى الحماية المادية الخاصة بشعب الدولة واقليمها من التهديدات الخارجية . أما مفهومه الواسع فيشير إلى ما هو أكثر من مجرد الحماية المادية ، لأنه يتضمن أيضاً حماية مصالح الدولة الاقتصادية والمعنوية والسياسية ، وقيمها التي تهدد فقدانها وجود هذه الدولة وبقائها (13)، ويعرف هارولد براون (Harold Brown) ، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ، الأم ن القومي بأنه " القدرة على حماية الوحدة الطبيعية للأمة ووحدة أراضيها ، وضمان استمرارا علاقاتها الاقتصادية مع العالم بشروط معقولة ، وحماية طبيعتها ومؤسساتها وسلطتها من التهديد الخارجي وضبط حدودها " (14)، ويرى فردريك هارتمان (Frederik Hartman) في الأمن القومي " جوهر المصالح القومية الحيوية للدولة " . ويرى جيرالد هويلر(Gerald F. Wheeler) أن الأمن القومي هو "حماية الدولة ضد جميع الأخطار الداخلية والخارجية ". ويربط جون سبانير (John Spanir) بين الأمن القومي وشروط " البقاء العضوي وحماية وحدة اقليم الدولة والاستقلال السياسي لها . وهذا بمجملة يعني حماية النظام السياسي والاقتصادي وطريقة تسيير الحياة في الدولة" ، ويجعل روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ، من الأمن قريناً للتنمية ، مؤكداً أن " الأمن هو التنمية" ، مادامت التنمية نشاطاً مجتمعياً ، فان ذلك يعطي للأمن بُعداً مجتمعياً ، ويجعل ماكنمارا من أوائل المؤسسين للمفهوم المجتمعي للأمن (15).
إن كل هذه التعريفات والدراسات التي صاحبتها لم تقدم معنى عام للأمن القومي و مشكلاته ، كما أن التباين بين تعريفات ومعاني الأمن القومي مجرد تباين ظاهري ، وبالحقيقة هناك اتفاق على بعض المبادئ النظرية العامة والمشتركة . أهمها أنه مفهوماً نظريا (مبادئ وقيماً ) يؤسس لنشاطات عملية (وظائف وسياسات) ويحدد طبيعتها وتوجهاتها ، كما يرتبط مفهوم الأمن القومي بسلامة أركان الدولة ومقومات استمرارها واستقرارها ، وضمان قيمها ومصالحها الحيوية ، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخلياً وخارجياً ، وتلبية احتياجات الدولة : وتحقيق أهدافها ، وتوفير القدرات والوسائل والأساليب الممكنة واللازمة لتنفيذ سياساتها بهذا الشأن .كما يعد الأمن القومي جوهر السياسة العليا للدولة (Grand Policy) ومحورها ، وهذه السياسة هي المخطط الاستراتيجي العام لتلبية متطلبات الأمن القومي للدولة ، وانجاز أهدافه العملية .
وبناءاً على ما سبق ذكره من التعريفات والمبادئ المشتركة بينها ، فان التعريف المقترح للأمن القومي هو : " هو مجمل المبادئ النظرية والأهداف الوظيفية والسياسات العملية المتعلقة بتأمين وجود الدولة ومن فيها ، وسلامة أركانها ومقومات استمرارها واستقرارها ، وتلبية احتياجاتها المختلفة ، وضمان قيمها ومصالحها الحيوية ، وحمايتها من الأخطار والتهديدات الحالية والمستقبيلة على المستوى الداخلي والخارجي ، وفق إستراتيجية شاملة تعمل على توظيف الإمكانات المختلفة للدولة سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو دعائية لتحقيق الأمن القومي ، مع مراعاة المتغيرات البيئية الداخلية والإقليمية والدولية ، والنظر لها ككتلة واحدة ، تتبادل التأثير والتأثر "(16).
كما نلاحظ في ما سبق ذكره إلى التقارب الكبير بين مفهوم الأمن القومي ومفهومي المصالح القومية (National Interests) والمصالح الحيوية (Vital Interests) ، فالمصلحة القومية هي : " كل قيمة ذات أهمية لأي من اللاعبين الدوليين ، يسعى إلى تحقيقها أو الحفاظ عليها أو العمل على زيادتها ، وهي محصلة أهداف الدولة في المجال الخارجي" ، وبما أن الأمن القومي للدولة يُعد مركز اهتمام الدولة ، فقد صنف بالمصلحة القومية الحيوية ، أي تمثل الحد الأدنى والضروري من المصالح القومية التي لا يمكن للدول أن تتقاضى عنها دون أن تعرض بقائها أو أمنها المباشر للخطر (17)، و ذكر مورتون بير كوايتز (Morton Berkowits) إلى أن مفهوم الأمن القومي قد تطور أصلاً عن مفهوم المصلحة القومية وتفرع منه . أما أرنولد ولفرز فقد دفعه تقارب هذه المفاهيم وعدم التمميز بينها إلى صياغة مصطلح مركب يجمعها هو "مصلحة الأمن القومي" (National Security Interests) الذي تستخدمه أيضا الموسوعة العالمية للعلوم الاجتماعية ، التي تؤكد أن مفهوم المصلحة القومية يتضمن جزءاً أساسياً هو " مصلحة الأمن القومي " . فالمصالح – قومية كانت أو حيوية أو قومية حيوية – هي مزيج من الأوضاع المادية والمعنوية الضرورية لوجود الدولة واستمرارها (18).
الحواشي :
(1) علي عباس مراد ، مشكلات الأمن القومي : نموذج تحليلي مقترح ، مركز الامارات للبحوث والدراسات الإستراتيجية ،ط1 ، العدد 105 ، أبوظبي 2005 ، ص19 – ص 20 .
(2) أمين هويدي ، العسكرة والأمن في الشرق الأوسط ، دار الشروق ، ط1 ، القاهرة 1991 ، ص51 .
(3) محمد السيد سليم ، تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين ، دار الفجر الجديد ، ط2 ، القاهرة 2004 ، ص39- 40
(4) مصطفى علوي ، مفهوم الأمن فترة الحرب الباردة في : هدى ميتكس والسيد صدقي عابدين (محرران) ، قضايا الأمن في آسيا ، مركز الدراسات الآسيوية ، القاهرة 2004 ، ص14-17 .
(5) عطا صالح زهرة ، الأمن القومي العربي ، منشورات جامعة قاريونس ، بنغازي1991 ، ص32 .
(6) طلعت أحمد مسلم ، حرب الخليج والأمن القومي ، دار الملتقى للنشر ، قبرص 1992 ، ص12 .
(7) أمين هويدي ، الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي ، دار الطليعة ، بيروت 1975 ، ص7 .
(8) علي الدين هلال ، الوحدة والأمن القومي العربي ، مجلة الفكر العربي العددان 11و12 ، بيروت 1979 ، ص94 .
(9) محمد طه بدوي ومحمد طلعت الغنيمي ، دراسات سياسية وقومية ، منشأة المعارف ، الإسكندرية1963، ص283 .
(10) حامد ربيع ، الحوار العربي الأوربي وإستراتيجية التعامل مع الدول الكبرى ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1980 ، ص179 .
(11) انظر :
Walter Lippman, US Foreign Policy: Shield of the Republic, Little Brown , Boston 1943 .
(12) انظر :
Arnold Wlfers, Discord & Collaboration: Essay on International Politics, Johns Hopkins University Press, Baltimore 1981 .
(13) انظر :
Amos A. Gordon & William J. Taylor , American National Security : Policy & Process , The Johns Hopkins University Press, London 1981 .
(14) انظر :
Harold Brown , Thinking about National Security, West View Press, Colorado 1983 .

(15) روبرت ماكنمارا ، جوهر الأمن ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة 1970 ، ص105 .
(16) انظر في هذا المضمون :
- علي عباس مراد ، مشكلات الأمن القومي ، م.س.ذ ، ص35 .
(17) د.إسماعيل صبري مقلد ، العلاقات السياسية الدولية : النظرية والواقع ، كلية التجارة – جامعة أسيوط ، ط4 ، أسيوط 2004 ، ص7- 11 .
(18) International Encyclopedia of Social Science, vol.2 , The MacmillanCo.& Free Press, New York 1968 , Pp.40-45 .

الأحد، 13 سبتمبر 2009

5-5: العولمة Globalization

التعامل مع تحديات وأبعاد العولمة :
إن عملية العولمة لها تأثيراتها السلبية كما ذكرنا آنفاً بالأبعاد والتأثيرات المختلفة لظاهرة العولمة ، القائمة والمحتملة ، على أغلب بلدان العالم خاصة دول العالم النامي التي تعثرت في مواجهة قضايا التخلف ومشكلاته ، ومع التسليم بأن تأثيرات العولمة على دول ومجتمعات العالم النامي متفاوتة . من حيث طبيعتها ودرجة حدتها ، إلا أن هذا لا يعني أنه لا توجد إمكانيات أو مجالات وفرص لتقليص مخاطر العولمة على هذه الدول وزيادة الايجابيات التي يمكن أن تحققها منها . وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنه من أخطر المواقف التعامل مع العولمة بمعيار الرفض المطلق أو القبول المطلق . فالرفض المطلق للعولمة لن يمكن الدول والمجتمعات من تجنب مخاطرها ، كما أن القبول المطلق لها لن يمكنها من جني ثمارها . ومن هنا تبدو أهمية بلورة الشروط الموضوعية والاستراتيجيات الحركية ، التي تسمح لدول العالم النامي بأن تعظم فوائدها من عملية العولمة ، وتحجم ما يمكن أن تتركه عليها من سلبيات ومخاطر(26) . وهنا لابد من التحرك والعمل على ثلاثة مستويات على النحو التالي :
أ. المستوى الوطني " الداخلي ": حتمية الإصلاح الإداري والسياسي والتعليمي:
إن الأوضاع الداخلية في العديد من دول العالم النامي ومنها الدول العربية لا تؤهلها للتعامل بفاعلية مع متطلبات عصر العولمة وتحدياته ، مما يحتم ضرورة الشروع في عملية إصلاح داخلي جاد وحقيقي . ورغم أن عملية الإصلاح يجب أن تكون شاملة ، إلا أنه من المهم التركيز خلال المراحل الأولى على العناصر والمجالات ذات التأثير الأكبر في دفع عملية التنمية وإعداد الدول والمجتمعات للقرن المقبل . ومنها على سبيل المثال : إصلاح الأجهزة الإدارية والحكومية التي تمثل العصب الأساسي للدولة وذلك وفقاً لرؤى جديدة تجعل أجهزة الدولة ومؤسساتها أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة . كما أن إصلاح نظم وسياسات التعليم والتدريب والتأهيل يمثل عنصراً جوهرياً في هذا الإطار باعتباره المدخل الرئيسي لتمنية قدرات البشر ، وخلق قوة عاملة مدربة ومؤهلة وقادرة على استيعاب التطورات المرتبطة بظواهر العولمة . وبالإضافة إلى ما سبق ، فان تطوير سياسات نقل التكنولوجيا وتوطينها والعمل على تنمية قاعدة تكنولوجية محلية يعتبر من المتطلبات الأساسية لتهيئة الدول لعصر العولمة . و إلى جانب الإصلاح الاقتصادي ، فان الإصلاح السياسي يمثل ركيزة أسياسية في أية إستراتيجية إصلاح داخلي . فالإصلاح السياسي القائم على تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي بصورة تدريجية وتراكمية وتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة ظواهر الفساد السياسي والإداري ، يعتبر هو المدخل الحقيقي لبناء دولة المؤسسات ، وتحقيق سيادة القانون ، وترشيد عملية صنع السياسات والقرارات . ولكن بالمقابل ، هل النظم الحاكمة في دول العالم النامي لديها القدرة والرغبة على تحقيق إصلاح داخلي بالمعنى المشار إليه سلفاً ؟ سؤال تخرج الإجابة عليه عن نطاق هذا التقرير (27).
ب. المستوى الإقليمي : ضرورة تفعيل هياكل وسياسات التكامل الإقليمي :
من المفارقات ، أن الدول المتقدمة الأقل تضرراً من سلبيات العولمة هي الأكثر حرصاً على تفعيل مؤسسات وسياسات التكامل والتكتل الإقليمي فيما بينها ، بينما دول العالم النامي الأكثر تضرراً من ظاهرة العولمة لا تولي عملية التكامل الإقليمي الاهتمام الكافي ، بل أن سياسات بعض الدول تصب في اتجاه عرقلة إمكانيات التكامل . ولكن نظراً لعمق التحديات التي تطرحها العولمة على هذه الدول ، ومحدودية قدراتها على التعامل معها فرادى ، فان تطوير سياسات التكامل الإقليمي بين هذه الدول في إطار المناطق والنظم الإقليمية التي تشملها ، أصبح ضرورة خاصة وأن أغلب مناطق العالم النامي لا تنقصها هياكل التكامل ولا التصورات والأفكار والبرامج ، ولكن الذي ينقصها بالأمس هو إرادة التكامل ، بما تتضمنه من معاني الحرص والعمل المشترك على تذليل المشكلات والعقبات التي تعيق التكامل . وقد تكون التحديات المشتركة التي تمثلها العولمة لهذه الدول دافعاً لها لاتخاذ خطوات جادة وحقيقية على طريق تفعيل عمليات التكامل والتكتل الإقليمي فيما بينها (28) .
جـ. المستوى العالمي : ضرورة العمل على إيجاد نظام عالمي أكثر عدلاً وأكثر ديمقراطية :
لقد ذكرنا آنفاً إلى أن دول الشمال لن تستطيع أن تعزل نفسها عن مشكلات وقضايا دول الجنوب ، وأن استقرار الشمال و أمنه يرتبط في جانب مهم منه بحالة الاستقرار والتنمية في الجنوب والشرق ، مما يؤكد ضرورة العمل على إيجاد نظام عالمي أكثر عدلاً وأكثر ديمقراطية ، يكون العالم النامي طرفاً مشاركاً فيه وليس على هامشه ، ويجري في إطاره ترشيد عملية العولمة ، ومساعدة دول العالم النامي على مواجهة بعض التحديات المزمنة التي تعاني منها ، والتصدي للمشكلات العالمية العابرة للحدود . وهناك العديد من التصورات والأفكار المطروحة بهذا الخصوص ، وقد ورد كثير منها في التقرير الذي أصدرته " لجنة إدارة شئون المجتمع العالمي " بعنوان " جيران في عالم واحد " .
ودون التحرك على المستويات الثلاثة سالفة الذكر ، فانه لن يكون بمقدور دول عديدة من العالم النامي أن تتعامل مع متطلبات العولمة وتحدياتها ، وستبقى أسيرة لمشكلاتها المزمنة ، وللتحديات الجديدة التي تفرضها عليها المستجدات والتحولات الراهنة ، مما سيؤدي إلى تفاقم مظاهر العنف والفوضى وعدم الاستقرار ، وليس في العالم النامي فقط ، ولكن في النظام العالمي برمته وستصبح الفوضى العالمية هي الوجه الآخر للعولمة المنفلتة . فهل سيكون هذا القرن هو قرن الفوضى المصاحبة للعولمة ؟ (29).
الحواشي :
(26) ورد في :
S. Huntington : The Third Wave ( University of Oklahoma Press, 1991) ,p.16 .
(27) Ibid
(28) حسنين توفيق إبراهيم ، العولمة : الأبعاد والانعكاسات السياسية ( رؤية أولية من منظور علم السياسة ) ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر1999 ، ص216 .
(29) المرجع السابق ، ص221 .

الجمعة، 11 سبتمبر 2009

4-5: العولمة Globalization

* الأبعاد الاقتصادية لظاهرة العولمة :
إن البعد الاقتصادي لظاهرة العولمة يمثل البعد الواقعي مقارنةً بالبعدين السياسي والثقاقي ، فقد همين الطابع الاقتصادي على ظاهرة العولمة فطغى على أبعادها الأخرى ، وتتمثل الأبعاد الاقتصادية للعولمة في مجموعة من المستجدات أو التطورات التي برزت بشكل واضح خلال العقد الأخير من القرن العشرين والتي طرأت على أنماط التفاعلات الاقتصادية الدولية شكلاً ومضموناً ، وأبرز هذه الأبعاد :
1. تراجع قدرة الحكومات الوطنية على توجيه الأنشطة الاقتصادية أو السيطرة عليها: وبالتالي انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الوطني إلى العالمي ، أي من الدولة إلى القوى عبر القومية أو المؤسسات العالمية أي " عولمة الاقتصاد " ليس " تدويل الاقتصاد " . ويرى ثامبسون Thampson أن تدويل الاقتصاد يشير إلى : " تداخل الاقتصاديات القومية بحيث يكون الاقتصاد الدولي اقتصاداً كلياً تتمثل وحداته الرئيسية في اقتصاديات قومية أو مؤسسات وطنية تتقيد بأقاليم معينة على الرغم من وجود اعتماد متبادل بين هذه الكيانات الإقليمية .
أما عولمة الاقتصاد مايعرف بالاقتصاد المعولم Globalized Economy يشير إلى " حودث تغير هيكلي في بنية الرأسمالية العالمية ، وأن الكيان الرئيسي هو الاقتصاد الكوني ، أي أن العلاقات والتفاعلات الاقتصادية لم تعد نابعة من أساس قومي ، وبالتالي فان الاقتصاد الكوني هو من يحدد ويفرض الممكن وغير الممكن على المستوى القومي (18).
2. تزايد سطوة المؤسسات والمنظمات الاقتصادية العالمية في مجال فرض النظم الاقتصادية الدولية : إن من أبرز مظاهر العولمة تزايد النزعة نحو الحكم على المستوى العالمي في المجال الاقتصادي ، ووضع معايير للتفاعلات الاقتصادية من خلال المنظمات الدولية " كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، حيث أصبح هذا الثالوث بمثابة آلية التحكم والتوجيه للاقتصاد العالمي ، ولعل ما يدلل على ذلك ما أعلنه مدير WTO بتصريح له : " إننا نكتب دستور اقتصاد عالمي واحد " (19).
وينص ميثاق منظمة WTO على : " أن يكفل كل عضو توافق قوانينه ولوائحه وإجراءاته الإدارية مع التزاماته تجاه المنظمة " ، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها مؤسسة دولية سلطة تجاوز المصالح القومية لأعضائها والتضحية بها ، كما تملك المنظمة سلطة توقيع العقوبات بصورة آلية على أي طرف تدينه لجان الخبراء ما لم تصوت الدول الأعضاء بالإجماع ضد هذه العقوبات خلال 90 يوماً .
أما منظمة المعايير العالمية ISO فهي تضع معايير الجودة في نشاط الإنتاج ، والتي يتعين توافرها في المنتج ذاته أو في العملية الإنتاجية وما يتصل بمقتضيات الحفاظ على البيئة ، وهي معايير تضعها القوى المهيمنة على تشريعات التجارة العالمية في وجه الاقتصاديات النامية لحرمانها من المزايا النسبية التي تتمتع بها كوفرة الموارد أو رخص الأيدي العاملة ، وذلك لتحميلها أعباء تكاليف إضافية لتحطيم قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية .
3. تنامي الاتجاه نحو التخصص وتقسيم العمل على المستوى العالمي في ظل عولمة الإنتاج: إن هذا النمط من التخصص وتقسيم العمل الدولي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة معدلات التراكم الرأسمالي في دول الشمال المتقدم . وهو ما ينذر باتساع الفجوة بين دول الشمال والجنوب ، فالعولمة تهدف إلى نقل الإنتاج الرأسمالي إلى مجتمعات الأطراف "الهامش" بعد أن كانت حكراً على مجتمعات المركز (20).
4.تزايد سطوة الشركات المتعددة الجنسيات وهيمنتها على الاقتصاد العالمي : تشير الإحصائيات أنه مابين 200 من القوى الاقتصادية الكبيرة بالعالم هناك نحو 160 منها من الشركات العابرة للقومية ، وأربعين فقط من حكومات الدول القومية ، وتنامي قوة هذه الشركات أضعف من مواجهة قوة دول الجنوب لها التي باتت تمثل فريسة لهذه الإمبراطوريات الاقتصادية العملاقة وتمثل الاستغلال بالآتي :
· استخراج الخامات والموارد الطبيعية ومصادر الطاقة بأسعار متدنية : من الدول النامية استجابة لتطلعات ومصالح وأطماع القوى الكبرى . وهو ما يتعارض مع مفهوم التنمية المستدامة في هذه الدول .
· استغلال العمالة المحلية الرخيصة الجر : في ظل غياب تنظيمات عمالية قوية بالدول النامية .
· توفير معظم الاستثمارات المطلوبة من مصادر محلية : فضلاً عن مصادر التمويل الأجنبي لشراء الآلات والمعدات .
· الاستحواذ على نسبة كبيرة من القروض : والمقدمة من قبل المؤسسات المالية والدول المانحة ، مع زيادة فوائد ديون العالم النامي .
· الاعتماد على خبرة الدول الصناعية التكنولوجية: وعدم إتاحة المجال أمام دول الجنوب لبناء قاعدة علمية أو تكنولوجية خاصة بها .
· التحايل والتهرب الضريبي : وذلك على السلطات الضريبية في دول الجنوب بعدم إظهار الأرقام الحقيقية للأرباح المحققة .
· عدم الالتزام بمعايير الأمان في المصانع : و المقامة في دول الجنوب مما قد يعرض العمالة والبيئة في هذه الدول لمخاطر كبيرة ، كما حدث في مصنع يونيون كاربايد في بوبال بالهند عام 1984 .
· لجوء هذه الشركات إلى أساليب غير مشروعة : كالرشوة واستغلال مظاهر الفساد السياسي المنتشر بالدول النامية تحقيقاً لمصالحها حتى ولو على حساب الإضرار باقتصاديات دول الجنوب ومصالحها الوطنية .
· تكوين اتحادات منتجين Cartels غير رسمية : وذلك بين الشركات العالمية للحد من المنافسة فيما بينها حول الأسواق العالمية . ونشأة الاحتكارات الدولية .
· هوس الاندماج Mergermania : وهي " اندماج الشركات العملاقة مع بعضها أو العمل على شراء الشركات المنافسة لها ، بدافع تحجيم المنافسة وزيادة الكفاءة الاقتصادية ، والاستفادة من مزايا التكامل ، وكذلك اقتسام الأسواق ، مما أدى إلى ظاهرة التركز Concentration حيث سيطرت حفنة قليله من الشركات العملاقة الناشئة عن هذه الاندماجات على قطاعات إنتاجية أو خدمية بأكملها .
مثال : شركات أمريكان أكسبرس وماستر كارد وفيزا تدير فيما بينها حوالي 95% من حجم المعاملات العالمي عن طريق بطاقات الائتمان (21).
5. تزايد درجة الاعتماد الاقتصادي المتبادل على المستوى العالمي : كان من شأن النمو الهائل للتفاعلات الاقتصادية الدولية والتشابك المعقد بين مصالح قوى الرأسمالية العالمية . ان غدا الاقتصاد العالمي موحداً ومترابط الأركان بحيث لم يعد من الممكن لأي اقتصاد قومي أن يعمل بمعزل عن المؤثرات العالمية . وهذا يظهر بشكل جلي في مجال الأسواق المالية والنقدية .
6. سيادة الفكر الاقتصادي الليبرالي على النظام الاقتصادي العالمي : وذلك لسقوط مصداقية الفكر الاقتصادي الماركسي في الاتحاد السوفييتي السابق وفي دول شرق أوروبا وفي العديد من دول الجنوب ، وهو ما أتاح دمج اقتصاديات هذه الدول في منظومة النظام الرأسمالي العالمي ، والقضاء على الثنائية الأيدلوجية . وذلك منذ مطلع التسعينات بالتحول إلى نظام آليات السوق بدل أساليب التخطيط المركزي وتقليص التدخل الحكومي من خلال عمليات "الخصخصة" ، ولاتي لها اعتبارات وضوابط إن لم تتبع ستضر الأمن القومي للدولة .
7. تزايد الاعتماد على التكنولوجيا الفائقة وتراجع الحاجة إلى العمالة البشرية : فضلاً عن محاولة استخدام العمالة الأرخص أجراً . فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد دفعت شركة (فولكس فاجن) الألمانية شعار " سيارات أكثر " و " عمل بشري أقل " بشكل يرفع أرباح المساهمين خمسة أضعاف . وكذلك ألغت الصناعات الحربية الأمريكية بعد الحرب الباردة نصف مليون فرصة عمل ، وبريطانيا بتطبيقها الخصخصة 113000 فرصة عمل ، وفرنسا 1.800000 فرصة عمل (22).
وكذلك اتجاه شركات IBM – Hewlett – Motorola إلى استخدام خبراء وفنيين من الدول الآسيوية " كالهند و الصين " ، وأحياناً تستأجر طائرات لنقل هؤلاء من موطنهم الأصلي .
8.توحش النزعة الاستهلاكية والترويج لثقافة المستهلك العالمي : و يقوم على أساس السعي المحموم للحصول على تشكيله من السلع التي سرعان ما يزهدها المستهلك عادةً، ومن ثم ينبذها بحيث تحقق الإشباع اللحظي. وهي ترتبط بإشباع الحاجات العارضة غير الضرورية ذات الطابع الترفي والتفاخري كالأزياء العالمية أو سلع ذات علامات تجارية مرموقة . فالنزعة الاستهلاكية تحرص على خلق أو إذكاء الحاجة لدى المستهلك بذات القدر من الحرص على إشباعها . وتلعب الدعاية والإعلان دوراً رئيسياً بذلك(23) .
* الأبعاد الثقافية لظاهرة العولمة : الثقافة هي " مجموعة القيم التي تعتنقها جماعة ما ، وتنصاع لها في اختياراتها وفي أسلوب معيشتها وهي عنصراً محدداً ورئيسياً من العناصر الموجهة للسلوك الإنساني بوجه عام ، وهكذا فان السعي إلى التأثير في سلوك الأفراد والجماعات قد يستلزم التأثر في عقولهم وإراداتهم ، أي في ثقافتهم . ومن هنا قد حرص الداعون إلى العولمة والمدافعون عنها على الترويج لمجموعة مترابطة من القيم وبثها على المستوى العالمي بهدف التمكين لسياسات العولمة ، وتهيئة المجتمعات لتقبلها .
والعولمة الثقافية قد تمثلت في المظاهر التالية :
1. التمكين للنزعة المادية على حساب النزعة الروحية :
بحيث يولي الإنسان في عصر العولمة وجهة شطر الماديات ، وينأى عن الاعتبارات القيمية ، حيث اتجهت آليات العولمة الثقافية " كالسينما و القنوات الفضائية الموجهة " نحو التسطيح الثقافي والتجهيل والتركيز على مواد الترفيه الخالية من أي مضمون قيمي أو معنوي ، بحيث لا تثير الفكر أو التأمل لدى المشاهد . بل تركز على إثارة الغرائز ومخاطبة المشاعر بحيث لا تخلف وراءها أي أثر تثقيفي حقيقي .
2. محو الخصوصية الثقافية والترويج لفكرة الثقافة العالمية :
فهدف العولمة إزالة الحدود الفاصلة بين المجتمعات والقضاء على فكرة محلية والإقليمية ، وبالتالي ثقافياً تهدف لمحو الهوية الثقافية لمجتمعات الأطراف وطمسها . فالهوية الثقافية لأي مجتمع إنما تتمثل أساساً في ذلك الشعور بالانتماء والولاء لنسق قيمي معين . ويتواكب محو الهوية الثقافية الترويج للثقافة العالمية على اعتبار أن ثمة مشتركاً إنسانيا عاماً بين البشر عالمياً ، وأخذ بالاتساع بعامل الاحتكاك والتفاعل والاتصال الإنساني ، وهو ما ينبئ إلى قرب التوصل إلى ثقافة عالمية موحدة ، والترويج إلى ثقافة الصورة Image والتي لاتحتاج للمصاحبة اللغوية لإدراكها ، مما صاحب ذلك تراجعاً شديداً لمعدلات القراءة وانحدار ثقافة الكلمة (24).
3. التمكين لسيادة القيم الغربية والأمريكية ولنمط الحياة الأمريكية :
وذلك من خلال هيمنة الثقافة الغربية بوجه عام والثقافة الأمريكية بشكل خاص ، لعدة عوامل :
أ‌- السيطرة الغربية والأمريكية على تكنولوجيا الإعلام والاتصال ونقل المعلومات .
ب‌- السيطرة على إنتاج المادة الإعلامية : والثقافية والصحافة والسينما وعالم الكمبيوتر وشركات البث الفضائي التلفزيوني والترفيهي للأطفال والوكالات الإخبارية .
ت‌- الهيمنة على عمليات التسويق العالمي : من قبل شركات الإعلان الأمريكية والقدرة على تشكيل أذواق واتجاهات ورغبات المستهلكين أو المتلقين .
ث‌- قوة الاقتصاد الأمريكي : مما دفع للإنتاج الثقافي من خلال السينما والموسيقى والتلفزيون .
ج‌- المكانة المرموقة للمؤسسات البحثية والتعليمية الجامعية الأمريكية : من خلال النجاحات البارزة في مجالات الإبداع والتطوير العلمي والتكنولوجي . مما جعلها قبلة النخب المثقفة في جميع دول العالم ، بالتالي التأثر بالمجتمع الأمريكي .
ح‌- اللغة الانجليزية ذات اللهجة الأمريكية باتت تشكل لغة عالمية : وذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، مما هيأ للثقافة الأمريكية بالانتشار .
خ‌- انتصار المعسكر الليبرالي على المعسكر الماركسي : بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ، مما جعلها محط إعجاب أبناء دول الجنوب باعتبارها تمثل النموذج الأمثل للتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، مما جعل القيم الأمريكية تلقى قبولاً عاماً . وانحسار هذه القبول والإعجاب بالسياسة الأمريكية بعد الحرب الباردة وافتقادها للمصداقية . وبروز نظرية " صدام الحضارات " كما أشار صامويل هانتجتون (25).
كما أن القيم التي تعكس مكونات الثقافة الإعلامية الجماهيرية الأمريكية هي كالتالي :
· الفردية : بإقناع الفرد بأن حقيقة وجودة محصورة بفرديته ، وكل ما عداه لايعنيه ، بهدف تحطيم الرابطة الجماعية الاجتماعية ، تمهيداً لإلغاء الهوية القومية بحيث يبقى فقط بالإطار العالمي .
· الخيار الشخصي : وهو يرتبط بالفردية ، بتكريس النزعة الأنانية لدى الأفراد تحت سيطرة وهم حرية الاختيار والحرية الشخصية . والقضاء بذلك على فكرة الوعي الاجتماعي والولاء وطمس الروح الجماعية .
· الحياد : أن كل الأفراد والأشياء المحيطة بالإنسان تتسم بالحياد . وبالتالي الأمور كلها سيان بالنسبة له . مما يؤدي إلى غلبة قيم اللامبالاة ، أي تكريس التحلل وعدم الارتباط بالمبادئ والأخلاقيات .
· الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لا تتغير : بالنظر للفوارق الاجتماعية بوصفها أمورا طبيعية لايمكن تغييرها ، بهدف تكريس النزعة السلبية وشل روح المقاومة ، وبث روح الاستسلامية مما يحبط أي محاولة لتغيير الواقع .
· الاعتقاد في غياب الصراع الاجتماعي: أي إشاعة مناخ الاستسلام للجهات المستغلة وللقوى المهيمنة ، وينتهي الأمر بالأفراد بقبول التبعية والخضوع للهيمنة عن طيب خاطر .
الحواشي :
(18) ورد في :
Waters, M.; Globalization ( Routledge, London, 1995 ), p.102 .
(19) Ibid
(20) محمد عابدي الجابري ، العولمة والهوية الثقافية ، مجلة المستقبل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد228 ، بيروت فبراير 1998 ، ص19 .
(21) المرجع السابق ، ص26 .
(22) ممدوح محمود منصور ، ( م . س . ذ ) ، ص77 .
(23) قدري محمود إسماعيل ، الاتجاهات المعاصرة وما بعد المعاصرة في دراسة العلاقات الدولية ، ط1 ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص145 .
(24) حيدر إبراهيم ، العولمة وجدل الهوية الثقافية ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر1999 ، ص95- ص97 .
(25) المرجع السابق ، ص107

الاثنين، 7 سبتمبر 2009

3-5: العولمة Globalization

بناءاً على ما سبق ذكرة فإن العولمة عملية مدارة، أي أنها تتمثل في مجموعة من الأنشطة الغائية التي تقبع خلفها إرادات واعية، والتي تستهدف تحقيق غايات معينة . وهكذا يمكن القول بأن ثمة إرادات تدبر وتدير هذه الأنشطة تحقيقاً لغايات محدودة واعتماداً على الوسائل والأساليب والأدوات الملائمة. وعلى قدر تباين هذه الوسائل والأدوات من حيث طبيعتها ، تتعدد وتتنوع أبعاد ظاهرة العولمة من سياسية، واقتصادية ، وثقافية ، واجتماعية، وعسكرية، وسكانية، واتصالية، وتكنولوجية، وبيئية، ومعرفية. إلا أننا وفي هذا التقرير سنكتفي بالأبعاد السياسية و الاقتصادية و الثقافية، والتي أثرت بشكل مباشر و غير مباشر على العلاقات الدولية .
* الأبعاد السياسية لظاهرة العولمة :
لقد تعددت وتنوعت انعكاسات ظاهرة العولمة على المجال السياسي داخلياً وخارجياً على حد السواء ، ولعل أبرز هذه الانعكاسات صعوبة الفصل وعلى نحو متزايد بين ماهو داخلي وبين ماهو خارجي ، فلقد ارتكزت أسس التنظيم الدولي – ومنذ قرون عديدة – على النظر إلى جماعة الدول باعتبار كل أن دولة تمثل وحدة سياسية متميزة عما عداها من الدول ، كما اقتصرت العلاقات الدولية – في بداياتها الأولى – على صورتين من صور التعامل الدولي الرسمي ألا وهما صورتا : الدبلوماسية ، والإستراتيجية (الحرب) . وهكذا ، وفي ظل النظر إلى الدول كوحدات مستقلة منعزلة عن بعضها البعض ، واقتصار التفاعل فيما بينها على أضيق نطاق . كان من الميسور الفصل بين ما يُعد من الشؤون الداخلية للدول . والتي لايصح للغير التدخل فيها عملاً بمبدأ " عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى " ، وبين ماهو دولي أو خارجي . غير أنه بمرور الوقت أخذت هذه الفكرة تتراجع تدريجياً تحت ضغط التفاعل المتزايد فيما بين الدول سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي ، ونتيجة لتنامي ظاهرة الاعتماد الدولي Interdependence . بحيث لم يعد يُنظر إلى الحدود الإقليمية كحاجز أو كعائق يحول دون التفاعلات الدولية ، وقد أدى ذلك إلى ظهور الفكرة التي عرفت بسياسات الترابط Linkage Politics بمعنى الترابط بين الأوضاع الدولية العالمية وبين الأوضاع المحلية الداخلية والعكس (14).
كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن ظاهرة العولمة قد تواكبت مع التحول الذي طرأ على صورة النسق العالمي : من صورة النسق ثنائي القطبية إلى صورة جديدة راحت تعرف بالنسق أحادي القطبية Unipolar System الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ويدور في فلكها مجموعة من الدول الصناعية الكبرى (دول الشمال الغني) ، بينما تمثل دول الجنوب مجموعة الدول التابعة نظراً لفقرها الاقتصادي وضعفها الاستراتيجي ومن ثم افتقارها إلى أهم أداتين من أدوات التأثير الدولي في عالمنا المعاصر ، بحيث باتت هذه الدول تمثل – تبعا لذلك – مجرد مسرح للنافس فيما بين القوى الكبرى . وتتمثل أبرز الأبعاد والانعكاسات السياسية للعولمة فيما يلي :
1. تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول " Sovereignty " : يمثل هذا المبدأ والذي نبه اليه جان بودان Jean Bodin عام 1576 – حجر الزاوية للتنظيم الدولي ، حيث أقرته كافة القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية . غير أن مفهوم السيادة قد لحقه التغيير بشكل ملموس منذ منتصف القرن العشرين، وذلك لعدة أمور:

· التوسع المتزايد في إبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة والنظم الدولية : والتي تتضمن قواعد وأحكام ملزمة لعموم الدول ( كنظم الرقابة والإشراف الدولي -والتحقيق والتفتيش بمجالات حقوق الإنسان – والتسلح النووي – واتفاقيات العمل الدولية .... الخ ) .
· الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية : كفالة الضمانات الدولية لعدم انتهاك هذه الحقوق بدعم من الأمم المتحدة .
· دعوة بعض فقهاء القانون الدولي للموائمة بين اعتبارات الصالح الدولي ومقتضيات السيادة الوطنية للدول : وعلى رأسهم Alvares في نظريته عن الاعتماد الدولي الاجتماعي المتبادل .
· الاتجاه المتزايد نحو إقامة الكيانات الدولية العابرة للقومية Transnational ، أو فوق القومية .
· بروز مشكلات دولية تستلزم تكاتف الجهود الدولية والدول للتوصل إلى حلول بشأنها : كمشكلات البيئة والتلوث ومشكلات الطاقة وندرة المياه العذبة والجفاف والتصحر والتضخم والبطالة والفقر ونقص الغذاء والإرهاب والعنف السياسيات وانتشار الأمراض كالايدز والمخدرات والجريمة المنظمة .
· تزايد إمكانية التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى : تحت أعذار إنسانية وحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات العرقية ، والتدخل بدعوى مقاومة الإرهاب الدولي ، مع عدم وجود معايير واضحة يتقرر على أساسها التدخل أو عدم التدخل ، وهو ما يعرف بمشكلة "ازدواجية المعايير" أو سياسة "الكيل بمكيالين" .
ويرى بعض الساسة أن العالم يشهد حالياً ما يمكن تسميته " بأفول السيادة " ، حيث يرى البعض أن النسق العالمي قد انتقل فعلاً إلى مرحلة ما بعد السيادة Beyond Sovereignty ، ويرى كل من Clark و Williams ضرورة إعادة النظر في مفهوم السيادة وتقديم تعريف واقعي له مثل " السيادة الجزئية " أو المقيدة أو المشتركة ، وأن المدلول المعاصر لمفهوم السيادة يشير حالياً لقدرة الدولة على تدبر أمورها في إطار علاقاتها بالدول الأخرى على نحو يكفل لها حماية مصالحها . وهناك من يرى رفض فكرة إعادة تعريف مفهوم السيادة أو تحديد مفهوم معاصر له ويرون من الأفضل الاعتراف بتجاوز هذا المفهوم والانتقال لما يسمى بمفهوم الحكم في مرحلة ما بعد السيادة (15).
2. تراجع قوة الدولة القومية وتضاؤل دورها : وذلك بدخول لاعبين رئيسيين للنسق الدولي كالشركات المتعددة الجنسيات أو عابرة القوميات MNC'S ، والمنظمات غير الحكومية NGO'S ، والمنظمات الدولية فوق القومية "كالاتحاد الأوروبي" .
ومن أبرز الأسباب والعوامل التي هيأت إلى إضعاف دور الدولة القومية ، مايلي :
· سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة قطبية: وما ترتب عليه من تهاوي الأنظمة الشمولية التي تعظم دور الدولة ومؤسساتها ، وتأخذ بنظم التخطيط المركزي . وظهور الدعوة للأخذ بالأيدلوجية الليبرالية والتعددية ، وإتاحة المجال أمام آليات السوق لتوجيه دفة التفاعلات الاقتصادية .
· الاتجاه نحو التحول الديمقراطي والأخذ بالتعددية السياسية : سواء على نحو جاد بتحرك شعبي حقيقي ، أو على نحو شكلي بالأخذ ببعض الواجهات الديمقراطية كنوع من أنواع مسايرة الركب على الساحة الدولية مع دعوة أنصار العولمة إلى تفعيل دور المجتمع المدني .
· الاتجاه نحو الأخذ بالحرية الاقتصادية : مواكبة للتحول الديمقراطي سياسياً بالأخذ بنظام اقتصاديات السوق وتخفيف قبضة الحكومة على النشاط الاقتصادي داخلياً وخارجياً وهذا ما يضعف قدرة الدولة والحكومات على إدارة الاقتصاديات الوطنية ، الأهداف الحقيقية وراء تبني هذه السياسة :
أ‌- إضعاف القدرة الاقتصادية للحكومات الوطنية : بعد تصفية القطاع العام والحد من قدرتها بالتأثير على السوق المحلية .
ب‌- إضعاف السيطرة الحكومية على الأفراد : كون الحكومة لم تعد صاحب العمل الأكبر وبالتالي عدم السيطرة عليهم .
ت‌- إتاحة المجال أمام الرأس المال الخاص والأجنبي للسيطرة على الاقتصاد الوطني : من خلال تملك المشاريع وبالتالي السيطرة على المقدرات الاقتصادية للدولة والتحكم بها .
ومن نتائج الأخذ بسياسة الخصخصة والحرية الاقتصادية :
أ‌- عدم قدرة الحكومات الوطنية من إدارة وتوجيه النشاط الاقتصادي: وبالتالي عدم القدرة على وضع التشريعات والقوانين الاقتصادية.
ب‌- عدم توافر البيانات والمعلومات والمؤشرات الاقتصادية: لاسيما في ظل تخلف نظم المعلومات في العديد من الدول النامية مما انعكس سلباً على عملية رسم السياسات العامة الاقتصادية.
ت‌- الآثار الاجتماعية السلبية : بفقدان العديد من المواطنين والعمال وظائفهم مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة . مما ينبئ لحدوث مشكلات اجتماعية خطيرة " كالجريمة / الإدمان / تفاوت الدخل " مما يؤدي لزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في العديد من الدول .
وبذلك يتضح أن العولمة قد هيأت لإضعاف الدولة سياسياً واقتصادياً بحيث باتت عاجزة عن تلبية المتطلبات و الاحتياجات المتزايدة للشعوب فضلاً عن عجزها عن التدخل لحماية المصالح الاقتصادية الوطنية في مواجهة سياسات وضغوط العولمة (16).
3. بروز مفهوم الحكم Governance كبديل للحكومة Government : يرى دعاة العولمة أن مفهوم الحكم أكثر تعبيراً وتناسباً مع الواقع السياسي والوطني والدولي حالياً من مفهوم الحكومة ، فلم تعد الحكومات وحدها تحتكر الوظائف السياسية في الدولة (وظائف الحكم) ، بل باتت تشاركها عدة جهات داخلية وخارجية ، وفقاً لما يلي :
· تزايد دور المنظمات الدولية العالمية والإقليمية والمتخصصة : ( كالأمم المتحدة – الاتحاد الأوروبي – صندوق النقد الدولي – البنك الدولي ... الخ )
· تزايد الاتجاه نحو إرساء العديد من النظم الدولية في العديد من المجالات في العلاقات الدولية : ويقصد بالنظم الدولية ما ذكره Krasnar : " مجموعة من المبادئ الضمنية أو الصريحة ، وكذلك الأنماط وقواعد السلوك ، وآليات صنع القرار ، التي تلتقي عليها مجموعة من الدول أو تنصاع لها فيما يتصل بمجال معين من مجالات العلاقات الدولية " . كالاتفاقيات العامة للتجارة والتعرفة الجمركية GATT والتي هيأت لقيام منظمة التجارة العالمية WTO .
· تزايد الدور الذي تلعبه بعض الهيئات الداخلية "دون الدولية" : كالكيانات المحلية أو البلدية في العلاقات الدولية على نحو يتجاوز أحياناً الدور الذي تمارسه الحكومات المركزية . فهناك عدة مقاطعات كندية وصينية وبعض الولايات الأمريكية توفد مبعوثين لها لدى الدول الأخرى وتمارس دورها باستقلالية نسبية . مثال : ( مجلس الأقاليم الأوروبية / لجنة الاتحاد الأوروبي للمناطق / اتفاقيات التعاون أو التآخي بين المدن / منظمة المدن العربية . الخ ).
· تزايد دور الهيئات فوق الدولية والمتعددة القومية : فالبنك الدولي وصندوق النقد الأصلي من برامج تنموية لتحقيق الاستقرار النقدي العالمي ليصل إلى حد التدخل في توجيه السياسات والبرامج الاقتصادية في العديد من الدول بدعوى تحقيق الاستقرار الاقتصادي ، أو ما يعرف برامج التكيف الهيكلي ، التي تفرض على الدول الأخذ بسياسات معينة (ذات توجه ليبرالي) . وإرسال المراقبين للتأكد من مدى التزام الحكومات بتعليماتها . " وهو شكل من أشكال الوصاية الدولية الجديدة " .
· النمو الهائل في قوة الشركات المتعددة الجنسيات : حيث تضخمت رؤوس أموال هذه الشركات وحجم عملياتها الذي زاد على 7 تريليون دولار أمريكي ، أو من حيث عدد العاملين في فروعها المنتشرة في العالم .
مثال : حجم عمليات شركة "جنرال موتورز" يفوق إجمالي الناتج القومي للدانمرك ، كما أن حجم عمليات شركة فورد Ford الأمريكية يفوق إجمالي الناتج القومي لجنوب أفريقيا ، وكذلك حجم عمليات شركة تويوتا Yoyota اليابانية يزيد على إجمالي الناتج القومي للنرويج .
· تزايد حدة النزعة الأوليجارشية على مستوى النسق الدولي : مع تواكب مولد ظاهرة العولمة تراجع الاتحاد السوفييتي السابق عن موقعة كقوة قطبية . وتحول النسق لأحادي القوة القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي سيطرت وتحكمت في مجريات الأحداث العالمية مع تماسك المعسكر الليبرالي تحت لوائها مع انسياق الاتحاد الروسي وحذر السياسة الخارجية الصينية. العالم حالياً يشهد ما يسمى بحكومة الثمانية الكبار G8 ، والتي تضم الدول الصناعية السبع الكبرى + روسيا ، وهي شبيهة إلى حد بعيد بفكرة حكومة الخمسة الكبار التي عرفتها أوروبا خلال القرن 19 " عصر التضافر الأوروبي " . وتتحكم حكومة الثمانية في توجيه دفة الشئون الدولية مع الولايات المتحدة ، وباتت تفرض رؤاها الخاصة على العالم ككل مع ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين (17).
4. تزايد الاتجاه نحو التكتل الدولي بين دول الشمال مع تزايد حدة التفتت و التشرذم في دول الجنوب : هناك ثمة نزوعاً نحو التكتل السياسي والاقتصادي الإقليمي بين الدول المتقدمة ، وتفكك وتفتت سياسي على العديد من الكيانات السياسية في شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي السابق وفي مناطق أخرى بالعالم لضعف السلطات الوطنية أو الصراعات العرقية و الطائفية والحروب الأهلية . حيث أن نزعة التكتل الإقليمي في دول الشمال تتمحور حول اعتبارين هما : ( التكامل الاقتصادي – التعاون الأمني ) .
مثال : ( الاتحاد الأوروبي – مجموعة دول أمريكا الوسطى1960 – مجموعة دول شمال أفريقيا 1991 – مجموعة جنوب شرق آسيا 1968 – مجموعة دول الكاريبي 1973 – مجلس التعاون لدول الخليج العربية 1981 – مجموعة وسط أوروبا 1989 – مجموعة دول أمريكا الجنوبية 1995 ) .
في ظل سياسات العولمة تتجه القوى الكبرى كما ذكرنا آنفاً للتآلف فيما بينها مكونة كياناً أكبر لتصبح أكثر قدرة على التنسيق والتحكم وتوجيه مجريات الأحداث الدولية ، في تبقى الدول الصغيرة ضعيفة مفتتة فلا تجد أمامها سوى خيارين أحلاهما مر ، فإما التعلق بأذيال القوى الكبرى والخضوع والتبعية لها ، وإما الغرق في بحار العولمة والانتهاء إلى التخلف والتهميش والخروج من التاريخ . فدول الجنوب تعيش على هامش التفاعلات الدولية وفق معايير تخدم مصالح القوى الكبرى بالمقام الأول والأخير .
الحواشي:
(14) عبدالخالق عبدالله ، العولمة : جذورها و فروعها و كيفية التعامل معها ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر 1999 ،ص39 .
(15) المرجع السابق ، ص80 .
(16) ممدوح محمود منصور ، ( م . س . ذ ) ، ص47 .
(17) أحمد الرشيدي ، التطورات الدولية الراهنة ومفهوم السيادة الوطنية ( سلسلة بحوث سياسية "85" ، مركز البحوث والدراسات السياسية ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة ، 1994 ) ص8-ص11 .

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

2-5: العولمة Globalization

وبعد أن عرفنا العولمة في المقال السابق، لزم علينا تكملة الموضوع من جوانبة الأخرى، عن كيفية ظهور العولمة، والاتجاهات المختلفة في تفسير ظاهرة العولمة، والمنطلقات الأيدلوجية للعولمة .
* كيف برزت العولمة ؟
1. الثورة الصناعية في القرن 18 : حيث برز مفهوم العولمة بداية في مجال الاقتصاد ، كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية والتي مثلت نقله جديدة لتطور الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية ، وبانطلاق هذه الثورة في انجلترا أدى التطور في استخدام الطاقة ( البخار والكهرباء ) إلى تغير جذري في أسلوب وقوى وعلاقات الإنتاج ، مما أدى إلى الخروج من عصر الإقطاع وبداية مراحل التطور والتوسع الاقتصادي والحصول على الموارد الطبيعية وفتح الأسواق العالمية وارتباط ذلك بظاهرة الحروب الأوروبية والاستعمار الخارجي لتوفير احتياجات الرأسمالية الصاعدة ، ومع استمرار التطور التكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات ونمط الإنتاج وطبيعة تغيرات شكل التعاملات والتفاعلات الدولية . وضرورة تجاوز الحدود القومية والأوضاع الاحتكارية وإعادة توزيع الدخل والعمل على رفع مستوى المعيشة وتوسيع أسواق الدول الصناعية خارجياً .
2. التحول من نمط "الرأسمالية القومية" إلى نمط "الرأسمالية العابرة للقوميات": والتي ارتبطت بها ظهور مفهوم العولمة من خلال ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة ليشمل السوق العالمية بأجمعها ، فالاقتصاد لم يعد محكوم بمنطق الدولة القومية وحدها ، بل ظهر فاعلون اقتصاديون من نوع جديد كالشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات ، حيث تراجع دور الدولة القومية الرئيسي سابقاً وأصبح للقطاع الخاص الدور الأول في مجال الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية .
3. تهميش دور دول العالم النامي غير القادرة على المنافسة : وذلك في مواجهة الدول الرأسمالية القوية وفقاً للنظرية "الداروينية" وقانون "البقاء للأصلح" ، فقد رأى بعض المفكرين أن القوى الرأسمالية الكبرى قد وجدت هذا المبدأ مبدأ أساسي لإسباغ الشرعية على تجليات العولمة وتداعياتها ، وأن العولمة هي "مابعد الاستعمار" .
4. " كثيراً من الربح ... قليلاً من المأجورين " : حيث يعتبر البعض أن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع المصنََعة بأقل ما يمكن من العمل ، وبالتالي تبدو الخصخصة والمبادرة الحرة والمنافسة على حقيقتها كأيديولوجية للإقصاء والتهميش وتسريح العمال وفقاً للمبدأ السابق .
5. العولمة ليست نظاماً اقتصادياً فحسب : وإنما يمتد إلى مجالات الحياة المختلفة سواء في السياسة أو الإعلام أو الثقافة بوجه عام . فالنمو الاقتصادي الرأسمالي كما يستلزم وجود أسواق حرة ، يستلزم أيضاً وجود أنظمة سياسيه وشكلاً معيناً من أشكال الحكم ، فتعدد مراكز القوة الاقتصادية استلزم بدوره تعدداً في مراكز القوة السياسية ، وخلق بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة ومنع تركيز القوة السياسية ، ومنع تركيز الثورة في يد الدولة ، وتحقيق درجة هامة من اللامركزية . ومن هنا اعتبر البعض أن الديمقراطية الليبرالية وقرينتها الرأسمالية هي نهاية التاريخ الإنساني ، وأن النموذج الأمريكي هو خلاصة وقمة التطور البشري (9).
6. مؤسسات دولية كبرى تقوم بارساء قواعد وبنيات هيكل العولمة : منظمة التجارة العالمية WTO : وهي تقوم بدور رئيسي لتكريس ظاهرة العولمة بتحويل الاقتصاديات المحلية المغلقة على ذاتها إلى اقتصاديات مفتوحة مدمجة فعليا في الاقتصاد العالمي ، عبر آليات ووسائل واتفاقيات تدريجية مع الدول .
· صندوق النقد الدولي IWF : حيث يدعم اتجاهات العولمة من خلال وظائفه الرئيسية المتمثلة في تصحيح الاختلالات في موازين المدفوعات للدول الأعضاء ، والمساهمة في استعادة توازنها ، وتحقيق استقرار سعر الصرف لعملاتها ، وتحرير المدفوعات الجارية ، وإقامة نظام متعدد الأطراف للمدفوعات الدولية .
· البنك الدولي IB : يتألف من ثلاثة مؤسسات رئيسية يطلق عليها "مجموعة البنك" وهم : ( البنك الدولي للإنشاء والتعمير – الرابطة الدولية للتنمية – مؤسسة التمويل الدولية ) وتعمل هذه المؤسسات معاً على تحيق العولمة بإحداث تغييرات أهمها زيادة الاعتماد المتبادل داخلياً وخارجياً ، وزيادة انفتاح المشروعات على الأسواق العالمية ، وزيادة استقطاب المشروعات للرؤى الابتكاريه .
7. بعض العوامل رئيسية ذات القوة التأثيرية الهائلة الداعمة للعولمة ، أهمها :
· شبكة الانترنت Internet: والتي تمارس دورها الرئيسي في توحيد العالم وزيادة ترابطه واتصاله.
· التجارة الالكترونية: حيث استطاعت جذب مئات الملايين إليها ، ووجد كل منهم مآربه وأهدافه ووسيلته للتعايش وإشباع احتياجاته ورغباته .
· المنظمات الجماهيرية غير الحكومية: أصبح لها دور هام في إعادة تشكيل التوجه الاجتماعي العام وخلق رأي عام مستنير تجاه القضايا العالمية.
· التغطية العالمية الكونية : من خلال الشبكات الإعلامية الإخبارية وما تحققه من وظيفة اتصالية ونقل فوري للأخبار لأي مكان في العالم .
· شبكة الاتصالات العالمية: فالتطور المتصاعد لتقنية الاتصالات وتطور أنظمة الشبكات والدوائر الفائقة التقدم ، واستخدام أنظمة الهواتف النقالة والاتصالات الخلوية عبر الأقمار الصناعية مباشرة ، جعل سكان العالم باختلاف أماكنهم مرتبطين يبعضهم ، بما أزال العزلة وفواصل الزمن (10).
* الاتجاهات المختلفة في تفسير ظاهرة العولمة :
ومن ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة العولمة شأنها شأن أية ظاهرة اجتماعية ، إنما تنطوي على جانب تمثلي ضميري ، ومن ثم فان تناولنا إياها بالتحليل أو بالتفسير ، لامناص من أن ينتهي بنا إلى خطر الانزلاق إلى مجال إصدار الأحكام القيمية ، أو إلى التأثر بوجهات النظر الذاتية للباحث أو الدارس ، ومن هنا كان تباين نظرات المحللين والمعنيين بدراسة هذه الظاهرة – انطلاقاً من اختلاف منطلقاتهم الفكرية أو مقدماتهم العقائدية وانتماءاتهم الأيديولوجية ، فراح بعضهم يقف من هذه الظاهرة موقف المناوئ المتشكك بينما راح فريق آخر يقف منها موقف المرحب أو المروج .
ويمكننا أن نوجز هذه الاختلافات بصدد النظر إلى ظاهرة العولمة في تيارين رئيسيين :
التيار الأول : وهو تيار متفائل يغلب عليه اعتبارات حسن النية – أو هكذا يبدو على الأقل – إذ يرى في العولمة أنها عملية تهدف إلى تحقيق نوع من التفاعل الايجابي ، والتكامل على مستوى الجماعة البشرية ككل ، ومن ثم يبالغ أنصار هذا الرأي في تبيان مزايا وايجابيات العولمة ، والتهوين من مخاطرها وسلبياتها . ويمثل هذا التيار وجهة نظر الدول الغنية أو الدول الأكثر تقدماً ( دول الشمال ) بوجه عام ، وان كان من المتعين - رغم ذلك – الإقرار بأن ثمة تبايناً في وجهات النظر فيما بيم الدول الغنية المتقدمة ذاتها ، تبعاً لتباين درجات استفادة كل منها من العولمة ، وكذلك تبعاً للاختلافات الأيديولوجية الطفيفة فيما بينهما ، أو تبعاً لمدى إدراكها للمخاطر التي تمثلها ظاهرة العولمة بالنسبة لأنماط الحياة أو الأنساق القيمية السائدة فيها ، أو للنظم الاجتماعية المعمول بها في هذه الدول ، وللتدليل على ذلك يكفي أن نشير إلى مدى تخوف الفرنسيين على سبيل المثال من المخاطر الثقافية للعولمة . إذ يرون فيها ترويجاً للثقافة الأمريكية وهو ما يعتبرونه خطراً على الثقافة الفرنسية .
ويمثل أيضاً هذا التيار موقف أنصار "التغريب" و "التحديث" و "التنوير" في دول الجنوب ، وما إلى ذلك من اتجاهات أو تسميات تنحو نحو الاقتداء بالمجتمعات الغربية باعتبارها الأكثر تطوراً ، ومن ثم اعتبارها الجديرة حقاً - من وجهة نظر هؤلاء - بأن تمثل النموذج الذي يتعين الاهتداء به أو السير على منواله ، وبما قد يستتبعه ذلك من ضرورة التخلي عن بعض القيم الموروثة وعن النزعات الأصولية باعتبارها عائقاً أمام ركب التقدم والتطور . وبالتالي القبول بالعولمة بدعوى الانفتاح على العصر وانه لا فائدة في مقاومتها .
التيار الثاني : فهو التيار المتشائم ، وهو يتعامل مع ظاهرة العولمة من خلال منظور نظرية المؤامرة ، فيرى أنها تمثل محاولة من جانب الدول الأكثر تقدماً لفرض هيمنتها سياسياً واقتصادياُ وثقافياً على بقية دول العالم . ويعكس هذا التيار وجهة النظر السائدة في دول الجنوب ( الدول النامية ) تجاه ظاهرة العولمة ، إذ يميلون المنتمون إلى هذه الدول إلى التشكيك في الجوانب الايجابية للعولمة على اعتبار أن هذه الايجابيات أو المكاسب سوف تكون من نصيب الدول المتقدمة وحدها ، في حين لن تجني دول الجنوب الفقير من العولمة إلا التخلف أو التبعية.
ويندرج أيضاً ضمن هذا التيار أولائك الذين يتخذون موقف الرفض المطلق للعولمة ويدعون إلى الانغلاق الكلي بما يستتبعه من ردود فعل سلبية معادية ، وهو ما يؤدي إلى رفض الآخر والانكفاء على الذات ، على اعتبار أن في ذلك تحصينا لهم من الآثار السلبية لهذه الظاهرة (11).
* المنطلقات الأيديولوجية للعولمة :
خلصنا مما سبق إلى أن العولمة تمثل عملية غائية مدارة . ومن ثم فمن المنطقي أن يكون ثمة إطار فلسفي (أو أيديولوجية) تنطلق منها العولمة بحيث تتحدد في ضوئه وعلى مقتضاه طبيعة هذه العملية وغاياتها ، وبحيث يعكس هذا الإطار المنطلقات الباعثة على هذه العملية والأصول الفلسفية الكامنة وراءها .
وانطلاقاً من محاولة السعي إلى التأصيل الفلسفي للعولمة ، يرى كلاً من الدكتور ممدوح منصور والدكتور محمد عماره أن الحضارة الغربية – بدءا من عصور النهضة والتنوير – قد ارتكزت على مجموعة من الأسس الفلسفية الرئيسية والتي أظهرها ما يلي :
1. فلسفة القوة المتحررة من الأخلاق : ممثلة في أفكار مكيافيللي كما صورها في كتابة الأمير . والتي أسفرت عن الفصل بين السياسة من ناحية وبين الدين والأخلاق و القيم بوجه عام من ناحية أخرى وهو ما أدى إلى غلبة مفهوم العلمانية Secularism على السياسة الأوربية والغربية بوجه عام ، وكذلك إلى تحرر السياسات الغربية من أية قيود أخلاقية أو ضوابط قيمية .
2. فلسفة التاريخ عند هيجل : والتي تقوم على أساس فكرة الجدلية ، والتي تنظر إلى العلاقة بين العصور التاريخية المختلفة من منظور الصراع ، وعلى أساس أن الجديد ينسخ القديم .
3. الفلسفة الداروينية : كما صاغها دارون في كتابة "أصل الأنواع" ، والتي تتخذ من فكرة الصراع قانوناً للتطور في عالم الأحياء ، على اعتبار أن البقاء للأصلح أو للأقوى (فكرة الانتخاب الطبيعي) ، ومن ثم فان اندثار الضعفاء يُعد أمراً طبيعياً يتفق مع طبيعة الأشياء أو النواميس الطبيعية ، وقد امتدت هذه الفكرة بعد ذلك إلى مجال العلاقات الاجتماعية على يد هربرت سبنسر فيما عرف بالداروينية الاجتماعية Social Darwinism . ومن هذا المنطلق فقد أصبح مألوفاً في السياسة ( عالم السياسة الوطني – عالم السياسة الدولي ) والاجتماع والاقتصاد أن البقاء للأقوى أو للأكثر كفاءة .
4. المذهب النفعي Utilitarianism : والذي أرسى دعائمه جيمس مل وجون ستيوارت مل ، والذي يجعل الغاية الأسمى التي يعمل الإنسان من أجلها هي تحقيق المنفعة ، وأن السعي إلى تحقيق المصلحة الفردية هو السبيل إلى تحقيق المصلحة العليا للمجتمع ككل (12) .
ويتضح مما سبق أن المرتكزات الفلسفية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة تهيئ لغلبة النزعة الفردية Individualism وللأنانية والأثرة والانتهازية ولمنطق القوة على الفكر والسلوك الاجتماعي الغربي باعتبارها قوانين طبيعية لا سبيل إلى التبديل فيها . ومن هذا المنطلق فقد راحت الحضارة الغربية تنظر إلى الحضارات الأخرى من منظور الصراع أو الصدام معها ( فكرة صراع الحضارات التي أشار إليها هانتنجتون مؤخراً على سبيل المثال ) كما عمل الغرب على فرض رؤاه الثقافية والحضارية الخاصة ، ساعياً إلى محو الآخر ، أو استئصاله أو إخضاعه أو محو ذاتيته ، وهو ما بدا على سبيل المثال في مناوأة الغرب ( في عصر الوثنية الرومانية ) للمسيحية في عهودها الأولى – بعد نجاحه في تشتيت اليهود – وكذلك معاداة الغرب ( بعد تحوله إلى المسيحية ) للمذاهب المسيحية الأخرى المخالفة للمذهب الملكاني ، ثم امتد ذلك فيما عرف بالحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت. وقد تواصلت نزعة التمركز حول الذات والتعصب لدى الغرب فتمثلت في صراع الغرب مع الحضارة الإسلامية في مرحلة الحروب الصليبية ، ومع غيرها من الحضارات الأخرى غير الأوربية خلال العهد الاستعماري ، من خلال استنزاف ثروات الأمم غير الأوربية ومحاولة اختراق ثقافاتها ، والقضاء على لغاتها القومية . بل أكثر من ذلك فقد سعى الغرب إلى تقنيع سياساته الاستعمارية الاستعلائية العنصرية بواجهات مثالية ، ومن خلال الإيهام بأن ذلك كله إنما يندرج تحت ما أسماه " عبء الرجل الأبيض White men's burden ، أي مسئوليته عن النهوض بالشعوب المتخلفة ، فراح الغرب يفرض عقائده الدينية – من خلال الحملات التنصيريه – باعتبارها أداة تحقيق الخلاص للشعوب الخاضعة لسيطرته ، كما عمل على محو المورثات الثقافية والحضارية للشعوب غير الأوربية باعتبار أن ذلك يعد تمديناً لهذه الشعوب وتحريراً لها من التخلف والرجعية و البدائية .
وبحلول القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان النظام الرأسمالي الغربي قد وصل إلى عنفوانه ، وهو ما انعكس بجلاء في السيطرة الاستعمارية الغربية على معظم أرجاء المعمورة ، غير أن العقود الأولى من القرن العشرين – بما شهدته من انقسام أيديولوجي ومن صراع بين الليبرالية والشيوعية ، وما واكب ذلك من بروز خطر الفاشية والنازية في أوروبا – قد استنفذت جانباً من القدرات الصراعية للغرب ، مما حدا بالغرب إلى إظهار قدر من المرونة والرفق في التعامل مع دول الجنوب سعياً لاستقطابها إلى جانبه في مرحلة الحرب الباردة ، وهو ما تمثل في اتاحه المجال أمام الشعوب المستعمرة للحصول على استقلالها وحقها في تقرير مصائرها ، فضلاً عن استمتاعها بهامش من حرية الحركة والقدرة على المناورة . غير أن انتهاء الحرب الباردة بسقوط القطب السوفيتي ، واضمحلال امبراطوريتة وتفكك دولته ، قد هيأ المجال أمام الغرب لكي يسعى إلى إعادة فرص هيمنته من جديد على بقية الحضارات الأخرى عبر العالم خلال سياسات العولمة , وما عجل هذا المشروع أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م ، باسم الحرب على الإرهاب ( كالعراق وأفغانستان ) والتدخل الإنساني ونشر الديمقراطية وعمليات الإصلاح السياسي في دول العالم النامي على وجه الخصوص .
وهكذا يبدو جلياً كيف أن الغرب يعتنق مفهوم " الواحدية الحضارية " ، إذ يرى أن حضارته هي وحدها الحضارة العالمية أو الإنسانية ، وأنها بمثابة النموذج الأوحد للتحضر والتقدم ، ومن ثم فهي القالب الذي يجب أن يصب فيه الحضارات الأخرى كلها لكي تشكل صورته (13) .

الحواشي :
(9) المرجع السابق .
(10) محمد محمود ربيع و إسماعيل صبري مقلد ، موسوعة العلوم السياسية ، جامعة الكويت ، الكويت 1994 ، ص 367 .
(11) ممدوح محمود منصور ، العولمة : دراسة في المفهوم والظاهرة والأبعاد ، ط2 ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص 29 .
(12) المرجع السابق ، ص 33 .
(13) الحبيب جناحي ، ( م . س . ذ ) ، ص ص16 .

الخميس، 3 سبتمبر 2009

1-5: العولمة Globalization



تُعد ظاهرة العولمة من أكثر الظواهر إثارة للجدل والنقاش في السنوات الأخيرة ، سواء على مستوى الدوائر العلمية الأكاديمية ، أو على مستوى المحافل السياسية والدبلوماسية و الاقتصادية وغيرها .
لقد برزت العولمة بشكل واضح خلال عقد التسعينات لكنها سرعان ما تحولت إلى قوة من القوى المؤثرة في الحقائق والوقائع الدولية المعاصرة . وهي الآن القوة الرئيسية التي تقود البشرية ككل إلى المستقبل، وتعدها لمعطيات ومتطلبات القرن الحالي . وأصبح من الواضح أن معظم التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية المذهلة والمتسارعة التي يشهدها العالم هي : إما سبب من أسباب العولمة، أو أنها مجرد نتيجة من نتائجها الضخمة والعميقة . كل المجتمعات – بما في ذلك أكثرها رغبة في الانعزال – تعيش حالياً وبدرجات متفاوتة عصر العولمة . كما أن كل الدول – بما في ذلك أكثرها ميلاً للتقوقع – معنية اليوم بالعولمة شاءت ذلك أم أبت . لكن في الوقت الذي يتجه فيه الكل نحو العولمة ، فان البعض يبدو مندفعاً نحوها بسرعة فائقة ، ومن دون تردد ، وبحماس ، في حين أن البعض الآخر يبدو وكأنة يحبو نحوها ببطء شديد .
وترتد أهمية ظاهرة العولمة إلى تباين أبعادها وتشعب آثارها ، إذ لم تقتصر انعكاسات هذه الظاهرة على مجرد التأثير على واقع العلاقات السياسية و الاقتصادية الدولية فحسب ، وإنما جاوزت ذلك لتشمل التأثير على الأوضاع الداخلية في معظم دول العالم مخلفة ورائها آثارا ملموسة على مختلف جوانب الحياة الإنسانية . وقد كان من شأن تلك الأهمية البالغة التي اتسمت بها هذه الظاهرة، وذلك الاهتمام الكبير الذي حظيت به ، أن تعددت الدراسات التي عنيت بتحليلها وتبيان آثارها ، كما تباينت الاتجاهات و الآراء والمواقف بصددها ما بين مؤيد ومعارض ، أو بين مرحب ومندد. ولامناص أمامي تجاه هذه الظاهرة الا الكتابة عنها بأكثر من مقال وجزء في هذا الموقع لتبيان أهميتها من جهة، وللالمام بجوانبها من جهة أخرى.
* حول التعريف بمفهوم العولمة Globalization :
العولمة لغوياً : هي تعميم الشئ وتوسيع دائرتة ليشمل العالم كله ، ويُقال عولم الشئ أي جعله عالمياً .
ولقد كان من شأن تزايد الاهتمام بظاهرة العولمة في السنوات الأخيرة ، وذيوع الكتابات المعنية بدراستها ، أن تعددت وتنوعت التعريفات التي قدمت لمفهوم العولمة ، فراح كل باحث يركز على بُعد معين من الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة ، بحسب اهتماماته العلمية أو العملية ، كما راحت هذه التعريفات المتباينة تصطبغ وتتلون على مقتضى التوجهات الفكرية والأيدلوجية لواضعيها ، أو تبعاً للمصالح المادية والمعنوية للدول التي ينتمي إليها واضعوا هذه التعريفات ، ومدى تأثر تلك المصالح بظاهرة العولمة سلباً أو إيجابا(1).
وفيما يلي محاولة لاستعراض الاتجاهات الرئيسية السائدة بصدد تعريف العولمة كمفهوم يشير إلى تلك الظاهرة المستجدة ، وذلك بغية التعرف على هذه الظاهرة ، وكذلك الوقوف إلى المدلول الاصطلاحي لذلك المفهوم .
1. العولمة كتكثيف للتفاعلات الدولية :
يرى فريق من المعنيين بالعولمة أن هذه الظاهرة تشير إلى ازدياد كثافة التفاعلات والعلاقات فيما بين الدول على المستوى العالمي . وفي هذا الإطار يرى كل من Holm & Sorensen أن " العولمة هي تكثيف للعلاقات الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والثقافية عبر الحدود " ، أما أنتوني جيدنز Giddens فيرى أن العولمة " هي عملية تكثيف للعلاقات الاجتماعية عبر العالم على نحو يهيئ لترابط التجمعات المحلية المتباعدة ، بحيث تتشكل الأحداث المحلية على مقتضى أحداث تقع على بُعد أميال عديدة والعكس بالعكس ".
ويتضح من تعريف جيدنز أنه يركز على الطابع الجدلي للعولمة ، حيث يشير إلى التأثيرات المتبادلة بين العالمي والمحلي ، فكما أن العولمة تؤثر في الأحداث المحلية ، فان العولمة ذاتها كظاهرة لابد لها – بدورها – أن تنفعل هي الأخرى بهذه الأحداث المحلية .
ويلتقي التعريفان السابقان حول فكرة التدويل Internationalization أي تدويل العلاقات والتفاعلات الاجتماعية حيث لا تعد مقصورة فقط على المستوى المحلي وإنما تنسحب إلى ما وراء الحدود الإقليمية فتصبح تفاعلات دولية ، ومن ثم فالعولمة تشير إلى النمو المتزايد للتفاعلات الدولية وزيادة الاعتماد المتبادل فيما بين الدول .
وانطلاقاً من التصور السابق فقد عرف كل من Thompson & Hirst العولمة على أنها " زيادة في أحجام ومعدلات نمو التدفقات التجارية وتدفقات رؤوس الأموال المستثمرة فيما بين الدول ، كما تتضمن العولمة – وفقاً لهذا التعريف – التحركات المتزايدة للأفراد والرسائل والأفكار فيما بين الدول " .
ويتفق Robert Cox أيضاً مع هذا الرأي حيث يرى أن " العولمة تتسم بمجموعة من الخصائص التي تشتمل على تدويل العملية الإنتاجية ، والتقسيم الدولي للعمل ، وحركات الهجرة البشرية من الجنوب إلى الشمال ، فضلاً عن تهيئة البيئة التنافسية التي تهيئ لذلك كله ، وربما يتطلبه ذلك أيضاً من إضعاف لدور الدولة"(2).
2. العولمة كتراجع لأثر العامل الجغرافي :
يرى M. Waters أن العولمة " هي عملية اجتماعية يتراجع بمقتضاها تأثير العامل الجغرافي على الترتيبات (النظم) الاجتماعية والثقافية ، وما يصاحب ذلك من تزايد وعي الشعوب بهذا التراجع" .
أما Baylis & Smith فيعرفان العولمة على أنها تعني ببساطة " عملية الترابط المتزايد فيما بين المجتمعات بحيث أن الأحداث التي تقع في مكان ما من العالم تكون لها – على نحو متزايد – انعكاسات على شعوب ومجتمعات نائية عنها"(3).
3. العولمة بمعنى اللا - إقليمية :
يرى البعض أن العولمة تعني القضاء على مفهوم الإقليمية Deterritorialization ، أو بعبارة أخرى فان العولمة تستهدف التمكين لما يسمى ما فوق الإقليمية Supraterritoriality. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى العولمة باعتبارها تمثل عملية إعادة تصوير لخريطة العالم بحيث لايبدو العالم مقسماً إلى أقاليم متميزة تفصل بينها حدود إقليمية .
ويندرج تحت هذا الاتجاه أيضاً تعريف كل من T. Mcgrew & D. Held حيث يعرفان العولمة على أنها " عملية ( أو مجموعة من العمليات ) التي تنطوي على تحولات عميقة بصدد التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية عبر العالم " .
4. العولمة بمعنى انضغاط الزمان و المكان :
يرى Robertson أن العولمة " هي انضغاط الزمان والمكان على مستوى العالم وتكثيف الوعي بالعالم ككل مترابط " بمعنى تراجع أثر الفواصل المكانية (المسافات) أو الزمنية (فروق التوقيت) على التعامل الدولي . ويؤيد Giddens هذا التصور حيث يرى أنه لايتعين النظر إلى العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية بالدرجة الأولى ، تقوم على تزايد درجة الاعتماد المتبادل فيما بين الدول ، وإنما هي تتمثل – في المقام الأول – في ذلك التحول الهائل الذي طرأ على مفهومي الزمان والمكان في عالمنا المعاصر(4).
5. العولمة بمعنى عملية التوحيد الكوني :
يلتقي أنصار هذا الاتجاه حول النظر إلى العالم (الكرة الأرضية أو كوكب الأرض) Globe ، أو الكون Universe كوحدة واحدة ، ومن ثم فالعولمة من وجهة نظر هؤلاء هي محاولة لتحقيق ما يشبه الوحدة الكونية Universalization .
وعلى الرغم من ذلك فهم يختلفون فيما بينهم حول تصوراتهم بشأن فكرة التوحيد Unification ذاتها ، إذ يذهب بعض المغالين إلى تبني التصور القائل بأن العولمة هي " مجموعة العمليات التي يتم خلالها تجميع شعوب العالم المختلفة في مجتمع كوني عالمي " ، أي أنها العملية التي تستهدف خلق هيراركية عالمية أو كونية سياسياً واقتصادياً وثقافياً ، ذلك بينما يقف فريق آخر عند حد القول بأن المقصود بالتوحيد هو الاتساق Uniformalization ، أي توحيد المعايير أو القيم على المستوى العالمي ، ولعل ذلك التصور الأخير هو الأقرب إلى الواقع ، ومن ثم فان العولمة – تبعاً لذلك – تشير إلى عملية توحيد القيم والمعايير والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى العالمي .
ويعد كل من Olivier Reiser و B. Davies أول من نحت فعل يعولم to Globalize ، وذلك في أربعينيات القرن الماضي ، بمعنى النظر إلى الكون كله كوحدة واحدة أو ككل مترابط ، حيث تنبأ بحدوث تآلف Synthesis بين الثقافات وصولاً إلى ما أسمياه بالنزعة الإنسانية العالمية Global Humanism . وفي هذا الإطار فان كلمة Global تشير إلى ماهو عالمي أو كوني ، أو إلى كل ما يمتد عبر العالم World Wide ، وكذلك فان لفظة العولمة تشير إلى عملية بث أو نشر الأشياء أو الخبرات عبر الشعوب ، على امتداد كافة أرجاء المعمورة(5).
6. العولمة بمعنى التحرر من القيود:
يرى أنصار هذا الاتجاه أن العولمة تتمثل في الاتجاه أو النزوع نحو الليبرالية Liberalization ، بمعنى التحرير و إزالة القيود والمعوقات التي تفرضها الحكومات على كافة الأنشطة والتحركات السياسية و الاقتصادية ، ويمكننا أن نتمثل مظاهر العولمة – وفقاً لهذا الاتجاه – في الانتشار السريع لعمليات التحول الديمقراطي سياسياً ، وعمليات التحول إلى آليات السوق وتحرير التجارة وإزالة العوائق على المبادلات التجارية وعلى تحركات الأفراد ورؤوس الأموال .
7. العولمة بمعنى الاستعمار والهيمنة :
ويمثل هذا الاتجاه وجهة النظر السائدة في دول الجنوب تجاه ظاهرة العولمة . ويرى Martin khor " أن العولمة تمثل ما اصطلحنا على تسميته في العالم الثالث لعدة قرون بالاستعمار"، ووفقاً لهذا التعريف تُعد العولمة صورة من صور الامبريالية الحديثة(6).
8. العولمة بمعنى التغريب والأمركة :
تذهب بعض التعريفات التي قدمت لمفهوم العولمة إلى اعتبارها محاولة للتغريب أو للأمركة Americanization إذ يرى كل من Spybey و Taylor أن العولمة " هي عملية حركية يتم بواسطتها فرض الهياكل الاجتماعية للحداثة من المنظور الغربي عبر العالم ، بما يتضمنه ذلك من مخاطر القضاء على الثقافات الأخرى وعلى حق الشعوب في تقرير مصائرها ، وحقها في المشاركة في هذه العملية " . وقد ارتبطت العولمة بالمشروع السياسي الأمريكي في مرحلة مابعد نهاية الحرب الباردة ، وقد عبر R. Keohane عن ذلك بقوله : " إن الهيمنة ( يقصد الهيمنة الأمريكية ) تخلق الاستقرار بواسطة احترام مجموعة من قواعد اللعب " .
ولعل مما يدعم هذا التصور ما أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب)- أثناء انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في البرازيل عام 1992م – حين قال " إن نمط حياتنا غير قابل للتفاوض " ، مما يوحي بأن القيم الليبرالية الغربية ، وكذلك نمط الحياة الأمريكية على وجه التحديد يتعين أن يكونا المعيار الحاكم في أي نظام دولي أو اتفاقية دولية – ولعل ذلك ما حدا بجاك لانج – وزير الثقافة الفرنسي السابق – إلى أن يرفع شعار : " يا ثقافات العالم اتحدي ضد الغزو الثقافي الأمريكي " ، وذلك خلال مؤتمر اليونسكو الذي عقد بالمكسيك(7).
وانطلاقاً من التعريفات السابقة التي عرضناها ، يمكننا الوصول إلى تعريف شامل بعض الشئ ، وهو :
" العولمة هي عملية مدارة إرادية وغائية تستهدف من خلالها القوى المهيمنة على النسق العالمي ، الإفادة من الأوضاع الدولية التي ترتبت على التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والمواصلات ، وزيادة كثافة التفاعلات الدولية ودرجة الاعتماد الدولي المتبادل ، وصورة التوزيع العالمي الراهن للقوة ، و ما نتج عن ذلك كله من الشعور بانضغاط الزمان والمكان ، وتهاوي الفواصل الإقليمية ، وتزايد الوعي بالعالم ككل متكامل – في تحقيق الهيمنة العالمية ، وذلك من خلال العمل على فرض أنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية على بقية مناطق العالم ، تحقيقاً لمصالح تلك القوى المسيطرة ، من خلال منظومة متكاملة من الأساليب والأدوات أو الوسائل المتنوعة والمتساندة والمهيئة لتحقيق تلك الهيمنة " .
وبذلك نتوصل إلى أن العولمة Globalization تختلف عن العالمية Globalism ، فالعالمية تشير إلى الطموح إلى الارتقاء بالخصوصية إلى المستوى العالمي ، أو بعبارة أخرى هي انفتاح محلي على ما هو عالمي أو كوني ، وبالتالي فان نشدان العالمية هو طموح مشروع يعكس الرغبة في الانفتاح على الآخر بهدف تبادل الأخذ والعطاء ، وبهدف الحوار والتعارف والتلاقح بين الحضارات والثقافات ، وهكذا يمكن النظر إلى العالمية باعتبارها إثراء للهوية الذاتية ، أما " العولمة " فهي إرادة للهيمنة ، وبالتالي فهي محاولة لقمع الخصوصيات القومية ، انها محاولة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته"(8).
الحواشي :
(1) مجمع اللغة العربية ، المعجم الوجيز ، وزارة التربية والتعليم العالي ، مصر 1994م ، ص457 .
(2) ورد في :
Baylis & Smith : The Globalization of World Politics (Oxford University Press , London,1997), p.15.
(3) Ibid
(4) ورد في :
Giddens, A ; The Consequences of Modernity ( Polity, Cambridg , 1990) , p .64 .
(5) Ibid
(6) الحبيب جناحي ، العولمة : الواقع والآفاق ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر1999م ، ص9 .
(7) المرجع السابق .
(8) محمد طه بدوي و آخرون ، مقدمة إلى العلاقات السياسية الدولية ، ط2 ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص230 .