الخميس، 3 سبتمبر 2009

1-5: العولمة Globalization



تُعد ظاهرة العولمة من أكثر الظواهر إثارة للجدل والنقاش في السنوات الأخيرة ، سواء على مستوى الدوائر العلمية الأكاديمية ، أو على مستوى المحافل السياسية والدبلوماسية و الاقتصادية وغيرها .
لقد برزت العولمة بشكل واضح خلال عقد التسعينات لكنها سرعان ما تحولت إلى قوة من القوى المؤثرة في الحقائق والوقائع الدولية المعاصرة . وهي الآن القوة الرئيسية التي تقود البشرية ككل إلى المستقبل، وتعدها لمعطيات ومتطلبات القرن الحالي . وأصبح من الواضح أن معظم التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية المذهلة والمتسارعة التي يشهدها العالم هي : إما سبب من أسباب العولمة، أو أنها مجرد نتيجة من نتائجها الضخمة والعميقة . كل المجتمعات – بما في ذلك أكثرها رغبة في الانعزال – تعيش حالياً وبدرجات متفاوتة عصر العولمة . كما أن كل الدول – بما في ذلك أكثرها ميلاً للتقوقع – معنية اليوم بالعولمة شاءت ذلك أم أبت . لكن في الوقت الذي يتجه فيه الكل نحو العولمة ، فان البعض يبدو مندفعاً نحوها بسرعة فائقة ، ومن دون تردد ، وبحماس ، في حين أن البعض الآخر يبدو وكأنة يحبو نحوها ببطء شديد .
وترتد أهمية ظاهرة العولمة إلى تباين أبعادها وتشعب آثارها ، إذ لم تقتصر انعكاسات هذه الظاهرة على مجرد التأثير على واقع العلاقات السياسية و الاقتصادية الدولية فحسب ، وإنما جاوزت ذلك لتشمل التأثير على الأوضاع الداخلية في معظم دول العالم مخلفة ورائها آثارا ملموسة على مختلف جوانب الحياة الإنسانية . وقد كان من شأن تلك الأهمية البالغة التي اتسمت بها هذه الظاهرة، وذلك الاهتمام الكبير الذي حظيت به ، أن تعددت الدراسات التي عنيت بتحليلها وتبيان آثارها ، كما تباينت الاتجاهات و الآراء والمواقف بصددها ما بين مؤيد ومعارض ، أو بين مرحب ومندد. ولامناص أمامي تجاه هذه الظاهرة الا الكتابة عنها بأكثر من مقال وجزء في هذا الموقع لتبيان أهميتها من جهة، وللالمام بجوانبها من جهة أخرى.
* حول التعريف بمفهوم العولمة Globalization :
العولمة لغوياً : هي تعميم الشئ وتوسيع دائرتة ليشمل العالم كله ، ويُقال عولم الشئ أي جعله عالمياً .
ولقد كان من شأن تزايد الاهتمام بظاهرة العولمة في السنوات الأخيرة ، وذيوع الكتابات المعنية بدراستها ، أن تعددت وتنوعت التعريفات التي قدمت لمفهوم العولمة ، فراح كل باحث يركز على بُعد معين من الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة ، بحسب اهتماماته العلمية أو العملية ، كما راحت هذه التعريفات المتباينة تصطبغ وتتلون على مقتضى التوجهات الفكرية والأيدلوجية لواضعيها ، أو تبعاً للمصالح المادية والمعنوية للدول التي ينتمي إليها واضعوا هذه التعريفات ، ومدى تأثر تلك المصالح بظاهرة العولمة سلباً أو إيجابا(1).
وفيما يلي محاولة لاستعراض الاتجاهات الرئيسية السائدة بصدد تعريف العولمة كمفهوم يشير إلى تلك الظاهرة المستجدة ، وذلك بغية التعرف على هذه الظاهرة ، وكذلك الوقوف إلى المدلول الاصطلاحي لذلك المفهوم .
1. العولمة كتكثيف للتفاعلات الدولية :
يرى فريق من المعنيين بالعولمة أن هذه الظاهرة تشير إلى ازدياد كثافة التفاعلات والعلاقات فيما بين الدول على المستوى العالمي . وفي هذا الإطار يرى كل من Holm & Sorensen أن " العولمة هي تكثيف للعلاقات الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والثقافية عبر الحدود " ، أما أنتوني جيدنز Giddens فيرى أن العولمة " هي عملية تكثيف للعلاقات الاجتماعية عبر العالم على نحو يهيئ لترابط التجمعات المحلية المتباعدة ، بحيث تتشكل الأحداث المحلية على مقتضى أحداث تقع على بُعد أميال عديدة والعكس بالعكس ".
ويتضح من تعريف جيدنز أنه يركز على الطابع الجدلي للعولمة ، حيث يشير إلى التأثيرات المتبادلة بين العالمي والمحلي ، فكما أن العولمة تؤثر في الأحداث المحلية ، فان العولمة ذاتها كظاهرة لابد لها – بدورها – أن تنفعل هي الأخرى بهذه الأحداث المحلية .
ويلتقي التعريفان السابقان حول فكرة التدويل Internationalization أي تدويل العلاقات والتفاعلات الاجتماعية حيث لا تعد مقصورة فقط على المستوى المحلي وإنما تنسحب إلى ما وراء الحدود الإقليمية فتصبح تفاعلات دولية ، ومن ثم فالعولمة تشير إلى النمو المتزايد للتفاعلات الدولية وزيادة الاعتماد المتبادل فيما بين الدول .
وانطلاقاً من التصور السابق فقد عرف كل من Thompson & Hirst العولمة على أنها " زيادة في أحجام ومعدلات نمو التدفقات التجارية وتدفقات رؤوس الأموال المستثمرة فيما بين الدول ، كما تتضمن العولمة – وفقاً لهذا التعريف – التحركات المتزايدة للأفراد والرسائل والأفكار فيما بين الدول " .
ويتفق Robert Cox أيضاً مع هذا الرأي حيث يرى أن " العولمة تتسم بمجموعة من الخصائص التي تشتمل على تدويل العملية الإنتاجية ، والتقسيم الدولي للعمل ، وحركات الهجرة البشرية من الجنوب إلى الشمال ، فضلاً عن تهيئة البيئة التنافسية التي تهيئ لذلك كله ، وربما يتطلبه ذلك أيضاً من إضعاف لدور الدولة"(2).
2. العولمة كتراجع لأثر العامل الجغرافي :
يرى M. Waters أن العولمة " هي عملية اجتماعية يتراجع بمقتضاها تأثير العامل الجغرافي على الترتيبات (النظم) الاجتماعية والثقافية ، وما يصاحب ذلك من تزايد وعي الشعوب بهذا التراجع" .
أما Baylis & Smith فيعرفان العولمة على أنها تعني ببساطة " عملية الترابط المتزايد فيما بين المجتمعات بحيث أن الأحداث التي تقع في مكان ما من العالم تكون لها – على نحو متزايد – انعكاسات على شعوب ومجتمعات نائية عنها"(3).
3. العولمة بمعنى اللا - إقليمية :
يرى البعض أن العولمة تعني القضاء على مفهوم الإقليمية Deterritorialization ، أو بعبارة أخرى فان العولمة تستهدف التمكين لما يسمى ما فوق الإقليمية Supraterritoriality. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى العولمة باعتبارها تمثل عملية إعادة تصوير لخريطة العالم بحيث لايبدو العالم مقسماً إلى أقاليم متميزة تفصل بينها حدود إقليمية .
ويندرج تحت هذا الاتجاه أيضاً تعريف كل من T. Mcgrew & D. Held حيث يعرفان العولمة على أنها " عملية ( أو مجموعة من العمليات ) التي تنطوي على تحولات عميقة بصدد التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية عبر العالم " .
4. العولمة بمعنى انضغاط الزمان و المكان :
يرى Robertson أن العولمة " هي انضغاط الزمان والمكان على مستوى العالم وتكثيف الوعي بالعالم ككل مترابط " بمعنى تراجع أثر الفواصل المكانية (المسافات) أو الزمنية (فروق التوقيت) على التعامل الدولي . ويؤيد Giddens هذا التصور حيث يرى أنه لايتعين النظر إلى العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية بالدرجة الأولى ، تقوم على تزايد درجة الاعتماد المتبادل فيما بين الدول ، وإنما هي تتمثل – في المقام الأول – في ذلك التحول الهائل الذي طرأ على مفهومي الزمان والمكان في عالمنا المعاصر(4).
5. العولمة بمعنى عملية التوحيد الكوني :
يلتقي أنصار هذا الاتجاه حول النظر إلى العالم (الكرة الأرضية أو كوكب الأرض) Globe ، أو الكون Universe كوحدة واحدة ، ومن ثم فالعولمة من وجهة نظر هؤلاء هي محاولة لتحقيق ما يشبه الوحدة الكونية Universalization .
وعلى الرغم من ذلك فهم يختلفون فيما بينهم حول تصوراتهم بشأن فكرة التوحيد Unification ذاتها ، إذ يذهب بعض المغالين إلى تبني التصور القائل بأن العولمة هي " مجموعة العمليات التي يتم خلالها تجميع شعوب العالم المختلفة في مجتمع كوني عالمي " ، أي أنها العملية التي تستهدف خلق هيراركية عالمية أو كونية سياسياً واقتصادياً وثقافياً ، ذلك بينما يقف فريق آخر عند حد القول بأن المقصود بالتوحيد هو الاتساق Uniformalization ، أي توحيد المعايير أو القيم على المستوى العالمي ، ولعل ذلك التصور الأخير هو الأقرب إلى الواقع ، ومن ثم فان العولمة – تبعاً لذلك – تشير إلى عملية توحيد القيم والمعايير والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى العالمي .
ويعد كل من Olivier Reiser و B. Davies أول من نحت فعل يعولم to Globalize ، وذلك في أربعينيات القرن الماضي ، بمعنى النظر إلى الكون كله كوحدة واحدة أو ككل مترابط ، حيث تنبأ بحدوث تآلف Synthesis بين الثقافات وصولاً إلى ما أسمياه بالنزعة الإنسانية العالمية Global Humanism . وفي هذا الإطار فان كلمة Global تشير إلى ماهو عالمي أو كوني ، أو إلى كل ما يمتد عبر العالم World Wide ، وكذلك فان لفظة العولمة تشير إلى عملية بث أو نشر الأشياء أو الخبرات عبر الشعوب ، على امتداد كافة أرجاء المعمورة(5).
6. العولمة بمعنى التحرر من القيود:
يرى أنصار هذا الاتجاه أن العولمة تتمثل في الاتجاه أو النزوع نحو الليبرالية Liberalization ، بمعنى التحرير و إزالة القيود والمعوقات التي تفرضها الحكومات على كافة الأنشطة والتحركات السياسية و الاقتصادية ، ويمكننا أن نتمثل مظاهر العولمة – وفقاً لهذا الاتجاه – في الانتشار السريع لعمليات التحول الديمقراطي سياسياً ، وعمليات التحول إلى آليات السوق وتحرير التجارة وإزالة العوائق على المبادلات التجارية وعلى تحركات الأفراد ورؤوس الأموال .
7. العولمة بمعنى الاستعمار والهيمنة :
ويمثل هذا الاتجاه وجهة النظر السائدة في دول الجنوب تجاه ظاهرة العولمة . ويرى Martin khor " أن العولمة تمثل ما اصطلحنا على تسميته في العالم الثالث لعدة قرون بالاستعمار"، ووفقاً لهذا التعريف تُعد العولمة صورة من صور الامبريالية الحديثة(6).
8. العولمة بمعنى التغريب والأمركة :
تذهب بعض التعريفات التي قدمت لمفهوم العولمة إلى اعتبارها محاولة للتغريب أو للأمركة Americanization إذ يرى كل من Spybey و Taylor أن العولمة " هي عملية حركية يتم بواسطتها فرض الهياكل الاجتماعية للحداثة من المنظور الغربي عبر العالم ، بما يتضمنه ذلك من مخاطر القضاء على الثقافات الأخرى وعلى حق الشعوب في تقرير مصائرها ، وحقها في المشاركة في هذه العملية " . وقد ارتبطت العولمة بالمشروع السياسي الأمريكي في مرحلة مابعد نهاية الحرب الباردة ، وقد عبر R. Keohane عن ذلك بقوله : " إن الهيمنة ( يقصد الهيمنة الأمريكية ) تخلق الاستقرار بواسطة احترام مجموعة من قواعد اللعب " .
ولعل مما يدعم هذا التصور ما أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب)- أثناء انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في البرازيل عام 1992م – حين قال " إن نمط حياتنا غير قابل للتفاوض " ، مما يوحي بأن القيم الليبرالية الغربية ، وكذلك نمط الحياة الأمريكية على وجه التحديد يتعين أن يكونا المعيار الحاكم في أي نظام دولي أو اتفاقية دولية – ولعل ذلك ما حدا بجاك لانج – وزير الثقافة الفرنسي السابق – إلى أن يرفع شعار : " يا ثقافات العالم اتحدي ضد الغزو الثقافي الأمريكي " ، وذلك خلال مؤتمر اليونسكو الذي عقد بالمكسيك(7).
وانطلاقاً من التعريفات السابقة التي عرضناها ، يمكننا الوصول إلى تعريف شامل بعض الشئ ، وهو :
" العولمة هي عملية مدارة إرادية وغائية تستهدف من خلالها القوى المهيمنة على النسق العالمي ، الإفادة من الأوضاع الدولية التي ترتبت على التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والمواصلات ، وزيادة كثافة التفاعلات الدولية ودرجة الاعتماد الدولي المتبادل ، وصورة التوزيع العالمي الراهن للقوة ، و ما نتج عن ذلك كله من الشعور بانضغاط الزمان والمكان ، وتهاوي الفواصل الإقليمية ، وتزايد الوعي بالعالم ككل متكامل – في تحقيق الهيمنة العالمية ، وذلك من خلال العمل على فرض أنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية على بقية مناطق العالم ، تحقيقاً لمصالح تلك القوى المسيطرة ، من خلال منظومة متكاملة من الأساليب والأدوات أو الوسائل المتنوعة والمتساندة والمهيئة لتحقيق تلك الهيمنة " .
وبذلك نتوصل إلى أن العولمة Globalization تختلف عن العالمية Globalism ، فالعالمية تشير إلى الطموح إلى الارتقاء بالخصوصية إلى المستوى العالمي ، أو بعبارة أخرى هي انفتاح محلي على ما هو عالمي أو كوني ، وبالتالي فان نشدان العالمية هو طموح مشروع يعكس الرغبة في الانفتاح على الآخر بهدف تبادل الأخذ والعطاء ، وبهدف الحوار والتعارف والتلاقح بين الحضارات والثقافات ، وهكذا يمكن النظر إلى العالمية باعتبارها إثراء للهوية الذاتية ، أما " العولمة " فهي إرادة للهيمنة ، وبالتالي فهي محاولة لقمع الخصوصيات القومية ، انها محاولة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته"(8).
الحواشي :
(1) مجمع اللغة العربية ، المعجم الوجيز ، وزارة التربية والتعليم العالي ، مصر 1994م ، ص457 .
(2) ورد في :
Baylis & Smith : The Globalization of World Politics (Oxford University Press , London,1997), p.15.
(3) Ibid
(4) ورد في :
Giddens, A ; The Consequences of Modernity ( Polity, Cambridg , 1990) , p .64 .
(5) Ibid
(6) الحبيب جناحي ، العولمة : الواقع والآفاق ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، عدد ديسمبر1999م ، ص9 .
(7) المرجع السابق .
(8) محمد طه بدوي و آخرون ، مقدمة إلى العلاقات السياسية الدولية ، ط2 ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص230 .

ليست هناك تعليقات: