الاثنين، 31 أغسطس 2009

المجتمع الدولي International Community :

حول مفهوم المجتمع الدولي :
يمكن القول بأن " المجتمع دولي " هو: مجموع تلك المجتمعات السياسية الفردية التي تشكل في النهاية ما يمكن أن نطلق علية مجتمع الدول أو الأمم Society of Nations . وتتكون كل واحدة من تلك المجتمعات السياسية التي تُسمى بالدولة القومية Nation State من شعب وإقليم وحكومة واقتصاد ، هذا في إطار شخصية لها ذاتيتها القومية المميزة أو ما يحلو للبعض أن يسميه بالثقافة القومية التي تساعد على توحيد هذا المجتمع في مواجهة غيرة من المجتمعات القومية المنافسة (1). وهم يعنون بهذه الثقافة الموحدة Unifying Culture منظومة القيم والتقاليد والأعراف والعادات التي تشارك فيها أفراد هذا المجتمع وتغذي فيهم الشعور بالانتماء إلى مجتمعهم في ظل إحساس عام مشترك بوحدة الهدف و المصير. وقد أطلق أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية على هذه الثقافة الموحدة مصطلح الشخصية القومية National Character التي ينسبون إليها العديد من التأثيرات الهامة خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستجابات السلوكية لهذه المجتمعات السياسية في محيطها الدولي الاجتماعي الأوسع .
من هنا يمكن القول بأن هذه العناصر الأساسية الأنفة الذكر تشكل في مجموعها مقومات وجود الدولة ، وبدون توافرها بصورتها الكاملة ينتفي شرط قيامها كوحدة مستقلة وفاعلة بالمجتمع الدولي الذي يجمعها بغيرها من الدول (2).
وعلى الجانب الآخر ، فانه يمكن الزعم بوجود مجتمع دولي حقيقي عندما يتاح له أن يضم في عضويته هذه الدول القومية ، وضمن هذه العضوية تحظى بعض الدول دون غيرها باعتراف دولي واسع بأنها دول كبرى ذات قوة ونفوذ مكانة و تأثير . ويتحقق انضمام أي دولة إلى المجتمع الدولي بالمعنى الذي أشرنا إليه بعدة طرق ووسائل منها :
1. أن تصدر الدولة تصريحاً سياسيا تعبر فيه عن رغبتها في الدخول إلى عضوية المجتمع الدولي كما تتعهد باحترام ما يفرضه عليها هذا الانضمام من التزامات ومسئوليات دولية . ويطلق على هذا التصريح عادةً Policy Declaration .
2. أن تقدم الدول الأخرى اعترافها الدبلوماسي بهذه الدولة الجديدة مما يعني الإيذان لها بالدخول في عضوية المجتمع الدولي بكل ما يترتب على هذه العضوية من نتائج وآثار دولية سواء بالنسبة إليها أو بالنسبة لغيرها من الدول .
3. دخول دولة إلى المجتمع الدولي كوريث لدولة أخرى سابقة عليها اضمحل كيانها السياسي وتجزأ لسبب أو آخر ، واعتراف الدول الأخرى بها كوريث لها ، إما اعترافاً شرعياً قانونياً أو اعترافاً واقعياً بصرف النظر عن شرعيته القانونية (3).
وأيا ما كان الأمر فان القانون الدولي بما يتضمنه من قواعد ومعايير وأحكام قد أرسى الأسس التي يستند إليها الاعتراف بالدولة ككيان مستقل ذات سيادة وطنية كاملة وغير مشروطة ، فهو يحدد شروط هذا الاعتراف الدبلوماسي والصور التي يمكن أن يتم بها أو يتمثل عليها والتي بها تتحقق الشرعية الدولية لتلك الكيانات السياسية المستقلة .
وعلى الرغم من أهمية الاعتراف الدبلوماسي بالدولة من قبل غيرها من الدول الكائنة في المجتمع الدولي ، إلا أن هذا الموضوع بالذات كثيراً ما يشوبه نوع من سوء الفهم مما يثير الكثير من الجدل الدولي حوله ، ومن ذلك على سبيل المثال : هل يعني سحب الاعتراف بالدولة من قبل غيرها من الدول أن هذه الدولة لم تعد قائمة أو أنها فقدت مبرر وجودها في هذا المجتمع الدولي ، حتى وان كان الهدف من سحب الاعتراف هو إظهار تلك الدولة بمظهر الخارجة على القانون (Outlaw) وأنها لم تعد تبعاً لذلك مؤهله للتحدث باسم شعبها مع الدول الأخرى الأعضاء في المجتمع الدولي ؟ ومن الأمثلة التاريخية البارزة لذلك ، رفض الدول الأوربية الملكية الاعتراف بشرعية النظام الثوري الذي قام في فرنسا في أعقاب ثورتها الكبرى عام 1789م (4). إن على الإجابة على التساؤل السابق تكمن في أن هذا الإجراء بسحب الاعتراف كثيراً ما أسئ استخدامه لأغراض سياسية ، وان كان لا يرقى من الناحية القانونية إلى مستوى إنكار وجود الدولة ككيان فعلي وقائم وله حضوره في الحياة السياسية الدولية .
وإذا تركنا الجانب المتعلق بالاعتراف الدبلوماسي إلى الجانب المتعلق بطبيعة الوضع القانوني (Legal Status) الذي يتقرر للدولة من جراء عضويتها في مجتمع الدول ، فسوف نجد أن القاعدة المستقرة التي يأخذ بها القانون الدولي هنا ، هي أن كل الدول تتمتع بنفس القدر من السيادة و المساواة حتى وان تباينت تلك الدول عن بعضها في أحجامها وتعداد شعوبها ورقعتها الجغرافية ونوع حكوماتها ومستويات نموها الاقتصادي ... الخ ، فالدولة متى حصلت على هذا الاعتراف القانوني بها أصبح من حقها أن تمارس اختصاصها بموجب صلاحيات السيادة المقررة لها والمعترف دولياً بها ، على كل ما يجري داخل إقليمها دون أن يكون لقوة أخرى خارجية أي سلطان عليه (5).
وبعيداً عن هذه المساواة القانونية التامة التي يكفلها القانون الدولي لكافة الدول في كل ما يتعلق بأمور السيادة والصلاحيات المترتبة عليها ، فان الدول من الناحية العملية الواقعية تتفاوت كثيراً فيما بينها من حيث مستويات القوة والتأثير والنفوذ الذي تمارسه في مواجهة بعضها البعض ، وهي ظاهرة يطلق عليها Gradations of Power and Influence أي " تدريجات القوة والتأثير "، وتلك بديهية مستقرة و لا خلاف عليها في قاموس السياسة الدولية . وربما لهذا السبب تسمى الدول أحياناً بالقوى (Power) ، فيقال القوى الكبرى ، والقوى المتوسطة ، والقوى الصغرى ، .. الخ ، وقد كان التعبير المستخدم في السياسة الدولية حتى نشوب الحرب العالمية الأولى هو تعبير القوة العالمية World Power كمرادف لبريطانيا التي كانت توصف بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد توارى هذا التعبير ليحل مكانة تعبير القوة العملاقة أو العظمى Super Power للدلالة على دولتين اثنتين بالذات هما الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي . وكان استخدام هذا التعبير الجديد يعكس الاعتراف العالمي الواسع بأن القدرات الجبارة و المتناهية الضخامة التي تمتلكها هاتان القوتان العملاقتان تجعلهما قادرتين على التأثير في مجريات الأحداث والوقائع الدولية على اتساع العالم بأكمله ، وبصورة تخرج تماماً عن نطاق القدرة المتاحة لأي دولة أخرى(6) .
وبالتالي فان مفهوم المجتمع الدولي وفق ما جاء في تعريفنا السابق له هو : المجتمع الذي ينتظم كافة الدول في عضويته ، وهو الذي يمنحها الاعتراف ، كما أنه يتعامل معها جميعاً على قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز ، وهو الذي يقر لها بصلاحيات السيادة الوطنية الكاملة وغير المشروطة على أراضيها . هذا على المستوى المثالي أما الواقعي فانه يختلف لاشك .
* أسباب ظهور مصطلح " المجتمع الدولي ":
من خلال متابعة التطور في حقائق وموضوعات العلاقات الدولية والتطور في طرق إدراكها وأساليب البحث والتحليل حولها ، توصلنا إلى أن المنظومة المفاهيميه السائدة في كل مرحلة يكون انعكاساً لطبيعة وحقائق وسمات هذه المرحلة ، حيث تعاقبت الاتجاهات في فهم وتفسير العلاقات الدولية بدءاً من مرحلة الواقعية الكلاسيكية وحتى منتصف الخمسينات ، ثم مرحلة السلوكية طوال فترة الستينات حتى بداية السبعينات مع بداية هذا المنظور الذي نحن بصددة والذي ارتبط بمرحلة ما بعد السلوكية (7).

منذ بداية السبعينات بدا واضحاً أن العديد من دارسي العلاقات الدولية يعبرون في تحليلاتهم عن حدوث تغيرات هيكلية في السياسات الدولية يترتب عليها عدم صحة التركيز فقط على صراع الدول حول الأمن العسكري والذي كان محور اهتمام المدرسة الواقعية ، ومن ثم بدأت تتعرض الواقعية (Rialism) لتساؤلات هامة تبرز عدم تلاؤم افتراضاتها مع النظام الدولي المتطور نظراً لبروز دور فاعلين جدد من غير الدول ، والدولة لا تعد هي الفاعل الوحيد ، من ناحية أخرى فان المتغيرات الاقتصادية بدأت تركز على فكرة الأدوار في العلاقات الدولية ومن ثم فقد طرح التساؤل بأن بعض الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات ( يطلق عليها مجتمع الأعمال ) تلعب دوراً في الحياة السياسية يفوق كثيراً الدور الذي تلعبة دولة مثل المالديف مثلاً ، فكيف يمكن اعتبارها وحدة دولية وعدم اعتبار هذه المؤسسات برغم من قوتها ودورها من ضمن الوحدات الدولية ، حيث يعتبر بعض أساتذة العلاقات الدولية النسق الدولي الحالي هو خليط بين النسق الأحادي القوة القطبية والبولياركي ، التي تتعاظم فيه دور المنظمات الدولية والاقليمية والاقتصادية إلى جانب الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقوميات في العلاقات الدولية بشكل يفوق بعض الدول أحياناً (8).
وهناك مجموعة من المتغيرات التي أدت إلى ظهور مفهوم " المجتمع الدولي " :
1. تطور الظروف والمتغيرات الدولية : خاصة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية والتي أبرزت وحتى نهاية الستينات أولوية وتفوق الاهتمامات العسكرية ، والتي أدت إلى تدعيم الانفصال بين السياسات الدولية والاقتصادية ، فخلال وبعد الحرب العالمية الثانية تمكنت الحكومات الغربية من الاتفاق على تدعيم مجموعة من القواعد و الإجراءات و المؤسسات لإدارة العلاقات الاقتصادية الدولية واستمر هذا لنظام المعروف بنظام (بروتون وودز) ولمدة عقدين متتاليين يعمل بفاعلية في السيطرة على الصراع في هذا المجال ، وقد اجتمعت في هذه الفترة ثلاثة ظروف سياسية شكلت الأسس الفعالة للاقتصاد العالمي وبالتالي ظهور مفهوم المجتمع الدولي :
أ‌- تركز القوة في يد عدد قليل من الدول الغربية : حيث مكنتها من السيطرة على هذا النظام في وقت كانت فيه الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي تتفاعل في إطار نظام اقتصادي منفصل ومن ثم لم تكن تفرض تحدياً على الدول الغربية في انفرادها بإدارة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي اندمجت فيه بقوة في هذه المرحلة مجموعة من الدول المتخلفة .
ب‌- وجود مصالح مشتركة بين الدول الغربية : محورها الاعتقاد في حيوية إرساء أُسس التجارة الدولية الحرة من ناحية ، وفي حيوية مبدأ التعاون الاقتصادي من ناحية أخرى .
ت‌- وجود قوة سائدة : وقادرة وراغبة في القيام بدور قيادي في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية (9).
2- بروز مشكلات عالمية أخذت مركز الصدارة في العلاقات الدولية : ويعاني منها اغلب دول العالم والتي كانت موضع اهتمام هامشي مثل مشكلة " الاحتباس الحراري – الموارد الطبيعية – ندرة الغذاء – الطاقة – الانفجار السكاني – ندرة المياه ... الخ " ، مع تزايد رغبات الشعوب على متطلبات النمو والرخاء أو متطلبات التنمية .
3- بروز أهمية الموضوعات الاقتصادية في العلاقات الدولية : سواء على صعيد العلاقات بين الكتلتين الشرقية والغربية إبان النسق الثنائي القوى القطبية ، أو على صعيد العلاقات بين الدول الغربية ، أو على صعيد العلاقات بين الشمال والجنوب .
4- التطور التكنولوجي والثورة المعلوماتية : خاصة في وسائل الاتصال ومجال نقل وتبادل المعلومات والتي غيرت من مضمون الفكر التقليدي في العلاقات الدولية ، وجعل الإطار العام لها هو التعاون وليس الصراع حسب رأي بعض أساتذة العلاقات الدولية.

إن الاستجابة لهذه الحقائق الدولية المنظورة تقتضي النظر العام باعتباره نظاماً من التفاعلات التي يلعب فيها فاعلون جدد من غير الدول دوراً هاماً حول موضوعات سياسية واقتصادية جديدة تخلق عمليات جديدة في النظام ، تتجه به إلى نوع من التعاون أو التكيف وليس العنف و الصراع دائماً مما أضحى مجتمعاً دولياً أو عالمياً . حيث أن المفاهيم النابعة من المنظور الواقعي التقليدي مثل ميزان القوة ، والردع والتحالفات لم يعد لها مغزى أمام اتساع محتوى السياسات العالمية الذي أضحى اهتمامها بقضايا عالمية كالموارد والبيئة والتجارة الدولية والنقد الدولي والسكان وغيرها ، وكل هذا يتطلب إدارتها درجة من التعاون الدولي ولذلك فقد تطورت الأساليب لفهم الواقع الدولي المعاصر (10).

إن منظروا هذا المنظور ( المجتمع الدولي ) يبدءون من الحالة الطبيعية الأولى كحالة فلسفية عند جون لوك ويعلنون أن العلاقات الدولية هي علاقات تعاون ( تعاون الكل مع الكل ) وليس صراع ( صراع الكل ضد الكل ) و أن هناك مصالح أساسية تدفع الدول إلى التعاون .
* البيئة الدولية و مفهوم المجتمع الدولي :
انطلاقاً مما سبق يرى هيجل أنه مادامت السيادة Sovereignty تُشكل منطلقاً لعلاقات مابين الدول ، فيمكننا القول بان بيئة العلاقات الدولية هي أشبة ما تكون بحالة الطبيعة . وكذلك يصف هوبز البيئة الدولية بأنها تشبه حالة الطبيعة حيث حرب الكل ضد الكل War of every one against every one .
واستناداً إلى هذه الطبيعة الفوضوية للبيئة الدولية ، يرفض البعض إطلاق عبارة "المجتمع الدولي" على جماعة الدول – وهي نظرة المدرسة الواقعية ، حيث يرى جورج بوردو " أنه ليس ثمة مجتمع إلا حيث توجد فكرة الحق والقانون ، وأنه نظراً لغيبة السلطة عن عالم العلاقات الدولية فلا يتصور إلا أن تكون الفوضى هي السمة الغالبة على هذه العلاقات " . أما ريموند آرون فيذهب هو الآخر إلى القول بخطأ التسمية الشائعة للجماعة الدولية بأنها "مجتمع دولي" ، ويرى أنه إذا كان لامناص من وصف هذه الجماعة بأنها "مجتمع"- رغم كون هذا خطأ في القياس – فيجب اعتبارها في هذه الحالة " مجتمعاً لا اجتماعي (11) .
و هنا تجدر الإشارة إلى مابين البيئة الوطنية ( داخل المجتمع الواحد ) وبين البيئة الدولية ( فيما بين المجتمعات السياسية ) من اختلاف في الطبيعة. فبينما تقوم العلاقات السياسية داخل المجتمع الواحد ، على أساس الأمر والطاعة ، حيث يكون للحاكمين سلطة الأمر ، ويتعين على المحكومين الالتزام بواجب الطاعة ، نجد أن العلاقات السياسية الدولية هي علاقات بين وحدات سياسية متميزة ومتساوية – قانوناً – من حيث السيادة ، ومن ثم فلا تملك أي منها سلطة الأمر ، كما لا يتوجب على بعضها طاعة البعض الآخر . وانطلاقاً مما سبق يمكننا أن نقابل بين ما بين ما تتسم به البيئة السياسية داخل المجتمعات الوطنية من مركزية وهيراركية Hierarchy وضبط سياسي Political Order ، وبين ما تتسم به البيئة السياسية الدولية من لامركزية وفوضى Anarchy ، فبينما تمارس النشاطات السياسية الداخلية في ظل "السلطة السياسية" ، تجري العلاقات فيما بين الدول في ظل غيبة السلطة Absence of Power ، ويتضح مما سبق أن البيئة الدولية بصورتها الراهنة تفتقر الى عنصر النظام أو القابلية للتنظيم .
وهكذا يمكن القول – بعبارة أخرى – أنه في حين تعتبر البيئة الوطنية بيئة "مستأنسة" بعامل الاحتكار الشرعي للقوه ، بما يتضمنه من تجريد أعضاء المجتمع من أدوات العنف ، تعد البيئة الدولية بيئة غيبة السلطة نظراً لقيامها على جمع من وحدات سياسية ذات سيادة تمثل كل واحدة منها مركزاً متميزاً لاتخاذ القرارات ، ومن ثم يمكن القول بأن البيئة الدولية تقوم على العديد من القوى المتميزة قد تتعاون فيما بينها ولكنها لا تتكامل تبعاً لتعدد السلطات فيها (12).
وفي هذا الصدد يميز ريموند آرون بين هدف كل من السياسة الداخلية والسياسة الخارجية ، على اعتبار أن الأولى تستهدف إخضاع المحكومين لحكم القانون بمقتضى الاحتكار الشرعي لأدوات الإكراه في أيدي القائمين على ممارسة مظاهر السلطة السياسية ، بينما يكون الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية – في ظل ما تتسم به البيئة الدولية من تعدد مراكز القوة المسلحة ، هو ضمان بقاء الدولة في وجه التهديدات التي يمثلها مجرد وجود الدول الأخرى .
وفي ظل بيئة دولية هذا شأنها ، ليس من المتصور لعلاقات الدول إلا أن تكون علاقات "عداء" ، وفي هذا المعنى يقول هوبز في كتابه Leviathan : إن العداء في البيئة الدولية إنما يرتد إلى تعارض مصالح دولة أخرى ، ومن هنا تسعى الدول – مستنده إلى قواها الذاتية – إلى تبادل فرض إراداتها تحقيقاً لمصالحها الوطنية .
وهكذا فانه في ظل حالة العداء ، وفي ظل غيبة السلطة العليا عن عالم السياسة الدولي ، يكون من المنطقي أن تسعى كل دولة إلى حماية أمنها ومصالحها اعتماداً على قوتها الذاتية ، بما في ذلك امكانية لجوئها إلى العنف تحقيقاً لمصالحها القومية . ويرى آرون أن السمة المميزة للعلاقات الدولية هي شرعية ومشروعية اللجوء إلى القوة المسلحة من جانب الدول (13).
وتبعاً لغيبة السلطة العليا عن البيئة الدولية ، وفي ظل قيامها على دول متعددة ذات سيادة تعمل كل منها على حماية مصالحها القومية ، لا يتصور وجود ما يمكن أن نسميه "بالخير العام" أو "المصلحة العليا" على المستوى العالمي ، فما تراه دولة ما في صالحها يُعد – من وجهة نظرها – الخير العام الذي تسعى إلى تحقيقه باعتباره أمراً تستدعيه مصلحتها العليا . ومن ثم يكون لكل دولة أن تقرر - على حده – مدى خيرية ما تقوم به من تصرفات في ضوء مصالحها القومية . وهكذا يمكننا القول بأن عالم السياسة الدولي تحكمه " نسبية القيم الأخلاقية " Moral Relativity – ويترتب على ذلك أنه ليس ثمة "حق" مطلق أو "عدالة" مطلقة في علاقات مابين الدول . فحقوق الدول مرهونة بما يتوافر لها من عوامل القوة القادرة على صيانة تلك الحقوق وحمايتها ، فلا حق في عالم السياسة الدولي إن لم تدعمه القوة ، ومن ثم فليس للدول أن تدعي لنفسها من حقوق إلا بقدر أهليتها للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة تطلعات الطامعين .

وهكذا – وفي ظل بيئة هذا شأنها – لا يتصور إخضاع علاقات مابين الدول لمبادئ قيمية أو لأنماط مثالية ، كما لا يتصور أن تقيد إرادات الدول بأية قيود أو قواعد ، اللهم إلا ما تقبله أو ترتضيه الدول ذاتها ، عملاً بفكرة التقييد الذاتي للإرادة Auto Limitation . كذلك لا مناص من أن يكون الاعتماد على الذات هو القاعدة الأساسية في التعامل الدولي ، ففي ظل غيبة السلطة ، ليس ثمة ما يكفل للدول حماية مصالحها والدفاع عن حقوقها إلا باعتمادها على قوتها الذاتية ، وبالتالي ينتفي وجود "مجتمع دولي" وفقاً للشروط والأحكام التي تقضي قيام هذا المجتمع وفقاً لما سلف . وان الدعوى بوجود هذا المجتمع يمثل دعوى مثالية أكثر من كونها واقعية ، وقد يكون ذلك غطاء لأفعال غير مشروعة تنتهجها بعض الدول تحت اسم " إرادة المجتمع الدولي " كالولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 ، أو في مواجهتها لإيران لمنعها من تطوير قدراتها النووية (14) .

تــعقـيـب :

أن المفهوم المثالي للمجتمع الدولي والقائم على شمولية القواسم الإنسانية المشتركة سواء الثقافية، أو الاقتصادية، بدأ ينحرف عن هذا التصور حتى لو كان الأمر يتعلق ببضع دول تشكل المنظومة الدولية والمجتمع الدولي. فنحن نرى بوضوح أن دول العالم لا تقتسم كلها نفس المصالح ، ولا نفس الأفكار والتصورات التي قد تشكل أرضية صلبة لمجتمع دولي حقيقي . فهل يمكن مثلاً الحديث عن منظومة تجمع بين الولايات المتحدة وإيران في مجتمع دولي واحد خاصة في ظل الخلافات الأخيرة بين الطرفين حول الملف النووي الإيراني ؟ أو بين بورما وسويسرا؟ وماذا عن باقي الفاعلين الدوليين على الساحة العالمية مثل الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية والحركات الإرهابية وغيرها من الأطراف التي أصبحت تحركاتها تؤثر بشكل واضح على العلاقات الدولية، لكن من دون اعتبارها جزءاً من المجتمع الدولي كما هو معروف لدى الباحثين؟ ورغم أن العالم اليوم لم يعد ثنائي القطبية وبالتالي انتفت، ولو نظرياً على الأقل، أسباب التنافس الدولي التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة، إلا أنه مع ذلك لم يتم الاتفاق على الرهانات والمصالح العالمية المشتركة بين مختلف دول العالم. ويرجع ذلك ربما إلى غياب حكومة عالمية تلعب دور الحكَم ، أو الوسيط النزيه في حل الأزمات الطارئة والبحث عن القواسم المشتركة بين الدول لتفادي نشوب النزاعات بينها. ففي المحصلة النهائية يتوزع العالم على مجموعة من المصالح المتباينة والتطلعات الدولية المتناقضة مع الاهتمام أحياناً بالمصالح الضيقة والقصيرة المدى على تلك التي تغلب المصلحة العامة والتي هي أساس قيام "المجتمع الدولي" . لا يمكن لمجتمع دولي حقيقي أن يتبلور ويضطلع بدوره من دون وجود علاقات دولية قائمة على التعددية ، واحترام آراء الدول الأخرى باعتبارها رُؤى مشروعة. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى نماذج متفرقة لعمل المجتمع الدولي على الساحة العالمية، لاسيما فيما يتصل بالكوارث الطبيعية، والتغيرات المناخية، أو الانتشار النووي وتفشي الأوبئة والأمراض الخطيرة التي تستوجب عملاً دولياً مشتركاً وتكاتفاً للجهود العالمية. والمشكلة أن الحدود بين الدول ، وإن كانت لا تستطيع درء الأخطار، أو منع انتقال الكوارث الطبيعية والأمراض، إلا أنها تبقى حائلاً دون صدور قرارات مشتركة تعكس وجوداً حقيقياً للمجتمع الدولي . وبرغم وسائل الاتصال المتطورة التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن وفرة المعلومات عن المناطق البعيدة لا تزال الدول تجهل بعضها بعضاً، ولا يزال سوء الفهم متفشياً على نطاق واسع بين شعوب العالم . وبالعكس من ذلك تماماً يبدو أن الفرص الجديدة التي أتاحتها حركة العولمة وتسهيل التبادل وانتقال الخدمات ورؤوس الأموال، ساهمت في تعميق الهوة بين أعضاء المجتمع الدولي وزرعت الفرقة بينهم بسبب التفاوت الرهيب في اقتناص الفرص والإفادة منها. فمازالت فئات واسعة من شعوب العالم تعيش ظروفاً صعبة ولم تنتفع من ثمار العولمة كما كان مؤملاً. و الأكثر من ذلك أن مفهوم المجتمع الدولي لدى الرأي العام العالمي مرتبط بالسلبية وغياب التحرك الفعال. وإذا ما تواجد فعلاً كيان جدير باسم المجتمع الدولي فهو يبقى، رمزاً للعجز وعدم الفعالية بالنظر إلى الأزمات المتعددة التي فشل في حلها، أو معالجتها مثل تلك التي تعصف بالشرق الأوسط ( كالغزو الأمريكي للعراق 2003 / الملف النووي الإيراني ) ، أو أفريقيا لعقود عديدة. وفي هذا السياق يحق لنا التساؤل عن دور المجتمع الدولي على حد تعبيرهم الذي عجز، إلى حد الآن، في ردم الهوة المتسعة بين دول الشمال والجنوب وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعوب مثل المياه والصحة وغيرهما. والواقع أن غلبة المصالح الفردية للدول ليست هي ما يعيق انبثاق مجتمع دولي حقيقي، بل إن غياب رؤية بعيدة المدى هي ما يحول دون ذلك، وشيوع تلك النظرة الواهمة لدى البعض بأنهم قادرون على فرض وجهات نظرهم على الآخرين حتى ولو كانوا أقلية على الساحة الدولية. و أخيراً لا يمكن لمجتمع دولي حقيقي أن يتبلور ويضطلع بدوره من دون علاقات دولية قائمة على التعددية واحترام آراء الدول الأخرى باعتبارها رؤى مشروعة من دون أن ننسى ضرورة تغليب المصلحة العامة على ما سواها. و الأهم من ذلك ألا تحتكر دولة، أو مجموعة صغيرة من الدول دون غيرها تحديد المصلحة الدولية العامة والسعي إلى فرضها.

الـــحــواشـــــــي
(1) ثامر كامل الخزرجي ، العلاقات السياسية الدولية : و إستراتيجية إدارة الأزمات ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، عمان 2005 ، ص47 .

(2) ممدوح محمود منصور ، سياسات التحالف الدولي : دراسة في أصول نظرية التحالف ودور الأحلاف في توازن القوى واستقرار الأنساق الدولية ، مكتبة مدبولي ، القاهرة 1997 ، ص 6 .

(3) إسماعيل صبري مقلد ، العلاقات السياسية الدولية : النظرية والواقع ، جامعة أسيوط ، أسيوط2004 ، ص31

(4) مرجع سابق ، ص34

(5) ثامر كامل الخزرجي ، العلاقات السياسية الدولية ، ( م . س . ذ ) ، ص 52 .

(6) مرجع سابق ، ص 57 .

(7) قدري محمود إسماعيل ، الاتجاهات المعاصرة وما بعد المعاصرة في دراسة العلاقات الدولية ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، الإسكندرية 2004 ، ص89 .

(8) مرجع سابق ، ص90.

(9) مرجع سابق ، ص 92 .

(10) ممدوح محمود منصور ، سياسات التحالف الدولي ، ( م . س . ذ ) ، ص11

(11) محمد طه بدوي وآخرون ، مقدمة إلى العلاقات السياسية الدولية ، أليكس لتكنولوجيا المعلومات ، ط2 ، الإسكندرية 2004 ، ص3 .

(12) مرجع سابق ، ص5

(13) محمد محمود ربيع و إسماعيل صبري مقلد ، موسوعة العلوم السياسية ، جامعة الكويت ، الكويت 1994 ، ص 623 .

(14) انظر في هذا المضمون :
Toma , P. & Gorman , R., : International Relation : Understanding Global Issues (Books / Cole Pub. Co., California , 1990 ) , p.24.

ليست هناك تعليقات: